Ahmad Alkatib | |||
! نحو خلافة شعبية ديمقراطية.. لا خلافة سلطانية مستبدة
قال تعالى:” وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”. البقرة ٣٠
وقال: “واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا الاء الله لعلكم تفلحون”. الأعراف ٦٩
وقال: “أمن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض أإله مع الله قليلا ما تذكرون”. النمل ٦٢
يبدو بوضوح من الآية الكريمة الأولى أن المقصود بالخليفة هو الانسان والجنس البشري، وان المقصود من (الخلفاء) بالآيتين التاليتين هم المؤمنون أو المسلمون. وقد اطلقت كلمة (الخليفة) على الحكام الذين خلفوا الرسول الأعظم، واطلقت في البداية على ابي بكر (رض) ولما خلفه عمر استثقل الصحابة قول (خليفة خليفة رسول الله) فأطلقوا عليه لقب (أمير المؤمنين) ثم أصبحت كلمة (الخليفة) لقبا شائعا على معظم الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين. وعندما سقطت الخلافة العثمانية في عام ١٩٢٤ هب المسلمون في مصر والهند لإعادة (الخلافة الإسلامية) وولدت حركات سياسية وأحزاب وضعت نصب عينيها هذا الهدف.
وربما لا يزال البعض يحلم ويعمل من اجل تحقيق (الخلافة) بصورة مشابهة أو مختلفة قليلة عن أنظمة الحكم في التاريخ الإسلامي، بناء على ما دونه الفقهاء الدستوريون القدماء في القرن الخامس الهجري، كالماوردي وابي يعلى والجويني.
واذا ما درسنا تاريخ كثير من (الخلفاء) فاننا قد نجد تناقضا كبيرا بين الخلافة التي أرادها الله للإنسان، أو للمسلمين في الأرض، وبين (الخلفاء) المناقضين في سلوكهم لتلك الخلافة. وذلك باحتكارهم للسلطة واستبدادهم في الأمر وتهميشهم للأمة الإسلامية، وإقامة أنظمة ديكتاتورية مطلقة.
وعندما بدأ المسلمون يحتكون مع الأوربيين في القرن التاسع عشر، حيث كانت التجارب الديمقراطية المختلفة تنمو وتتطور، نادى بعض المفكرين المسلمين بضرورة تطوير النظام السياسي العثماني، الى نظام ديمقراطي يعبر عن شعوب الأمة الإسلامية وارادتها، ويفسح لها المجال للمشاركة في تقرير مصيرها، فكان دستور ١٨٧٦ الذي أقره السلطان عبد الحميد الثاني، ربما تحت ضغط الدول الأوربية التي كانت تعمل من أجل تحرير الشعوب المسيحية التي كانت تخضع للحكم العثماني. وقد ارتاب السلطان بسرعة من الديمقراطية فألغى الدستور وجمد مجلس (المبعوثان) حوالي ثلاثين عاما، حتى عام ١٩٠٨
ومنذ ذلك الحين نشأ جدل ساخن بين المؤيدين للديمقراطية الذين يرون فيها تطبيقا لمبدأ الشورى، والمؤيدين لنظام الخلافة الذين يرون فيه نظاما إسلاميا اصيلا، ويرفضون استيراد أي نظام سياسي من الغرب الكافر، او من خارج الإسلام.
وبالرغم من تبني كثير من الإسلاميين ودعاة الخلافة ، خلال المائة عام الماضية، للديمقراطية، الا ان بعض السلفيين لا يزال يصر على اعتبار الديمقراطية كفرا وشركا والحادا.
ويجادل هؤلاء “الإسلاميون” السلفيون الرافضون للديمقراطية، بأن من واجبهم تطبيق الشريعة الإسلامية، وان أكثر الناس يرفضون ذلك، أو أن الديمقراطية تعتمد مبدأ الأكثرية، واكثر الناس فاسقون أو ضالون أو منحرفون أو كفار، أو جاهلون، أو مشركون، وبالتالي لا يجوز الاحتكام لرأي الأغلبية، لأن ذلك يؤدي الى انهيار الحكم الإسلامي أو تراجعه عن تطبيق الشريعة. ومن هنا فان هؤلاء الإسلاميين يفضلون الحكم المستبد القائم على القوة، ويرفضون الديمقراطية، أو الاحتكام الى الشعب.
ويقولون أيضا بأنهم “الفرقة الناجية” أهل الحق، وان قلوا، ولا يمكن خضوع أهل الحق للفرق الضالة أو الجماهير الفاسقة والجاهلة. أو السماح لغير الإسلاميين من الكفار والعلمانيين أو الفاسقين بتولي المناصب السيادية العليا،
ويتبع هؤلاء استراتيجية السيطرة على المجتمع بالقوة والغزو والفتوح تحت شعار نشر الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية، واستمداد الشرعية الدستورية في الحكم من الشرع، وليس من الناس.
ويتجلى هذا الاتجاه في ايمان بعض الإسلاميين (السنة) بثقافة القوة والانقلاب العسكري، كما يقول الامام احمد بن حنبل: بشرعية أي واحد يسيطر على الأمة بأية طريقة وانه يصبح أمير المؤمنين، وتجب طاعته ويحرم الخروج عليه.
وهكذا نشأت في التاريخ الإسلامي نظريتان هما الخلافة السنية والامامة الشيعية، ابتعدتا عن الشورى وعن تمثيل الأمة والسماح لها بممارسة دول الخلافة في الأرض، فأما الخلافة السنية التي قامت على مبدأ القوة، فواضح، واما الامام الشيعية التي ولدت في القرن الثاني الهجري، فانها لم تطبق الا في ظل الحكم الفاطمي في مصر، خلال القرون الرابع والخامس والسادس، فانها قامت أيضا على مبدأ القوة، وأضافت اليه دعوى الحق الإلهي بالوراثة من الامام علي التي قالت ان النبي قد نصبه وأولاده خلفاء على الأرض، وقد سلبت بذلك حق الأمة في الشورى واختيار الامام، فضلا عن مراقبته ومحاسبته وتغييره. وكرست تينك النظريتان (الخلافة السنية والامامة الشيعية) النظام الديكتاتوري المضاد لإرادة الله في خلافة الانسان في الأرض.
ومن المؤسف ان كثيرا من الحركات الإسلامية التي حاولت إعادة الخلافة، خلال القرن الماضي، قد ركزت على إعادة (الخلافة السلطانية) المستبدة، وليس احياء خلافة الأمة وبعث دورها في الحياة. واستبدل كثير من الإسلاميين انفسهم بالأمة، وحاولوا أن يفرضوا سيطرتهم الديكتاتورية عليها، فكرسوا الانحراف التاريخي الكبير بدل ان يحيوا الأمة.
ولم يقتصر الأمر على الحركات الإسلامية السنية، وانما ضاهتهم في ذلك الحركات الإسلامية الشيعية، سواء الأحزاب السياسية، أو المرجعيات الدينية التي افترضت انها تشكل امتدادا لخط الامامة الإلهية (امامة اهل البيت) وانها تمتلك الشرعية الدينية بالنيابة العامة عن الامام الثاني عشر المهدي الغائب، وبالرغم من ان بعض المرجعيات والأحزاب الإسلامية الشيعية تبنت النظام الديمقراطي، الا انها ظلت تؤمن بحقها في الولاية العامة وانها فوق الشعب والدستور والديمقراطية.
تبرير الاستبداد:
يقول بعض الإسلاميين انهم يؤمنون بالديمقراطية، ولكنهم لا يرونها طريقا ممكنا لوصولهم الى السلطة، نظرا لرفض المستعمرين والمستبدين لهم، وعدم السماح لهم بتنفيذ أجنداتهم الإسلامية، وتآمر أعدائهم ضدهم، إعلاميا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، كما حدث في غزة ومصر ولبنان، وغيرها من البلاد. مما يفرض على الإسلاميين من أجل وصولهم الى السلطة أو المحافظة عليها اللجوء الى قدر من القوة والاستبداد، وعدم ترك الساحة لمؤامرات الأعداء المعادين للديمقراطية.
الاستبداد الداخلي
لماذا ينقلب بعض الإسلاميين على أنفسهم، وعلى جماهيرهم وأعضاء حزبهم؟
ان الاستبداد “الإسلامي” لا يتوجه فقط ضد اللااسلاميين، وانما قد يشمل حتى الإسلاميين، حيث يقمع الحاكم المسلم أو الحزب الإسلامي الحاكم منافسيه من الأحزاب والطوائف الإسلامية الأخرى، ولا يسمح لهم بمشاركته في السلطة، وهكذا يتم احتكار السلطة وتبرير ضرب الآخرين وإقامة نظام مستبد ديكتاتوري وتهميش الأمة من ممارسة دور خلافة الله في الأرض.
واذا وضعنا العوامل الخارجية والفكرية التي تحول دون قبول وتبني بعض الإسلاميين للديمقراطية، فان ثمة هناك عوامل أخرى داخلية وذاتية، تدفع باتجاه الديكتاتورية، حتى لدى بعض الإسلاميين الذين يرفعون شعار الديمقراطية، أو يعيشون في أجواء إسلامية خالصة.
وتتمثل تلك العوامل في الطبيعة الإنسانية التي أشارت اليها الآية الكريمة الأولى على لسان الملائكة، بعد أخبرهم الله بجعل الانسان خليفة في الأرض، حيث (قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وهي إشارة الى طبيعة الانسان، الميالة الى الصراع في الدنيا من أجل المال والزعامة، وحب السيطرة، الذي يؤدي الى الافساد وسفك الدماء. وهو ما يناقض واجب الطاعة لله والعيش بحب واخوة وسلام بين بني الانسان.
وفي حين يفترض بالإنسان المسلم الالتزام بتعاليم الله تعالى، وعدم التكبر في الأرض، فان المنخرطين في الحركات الإسلامية (حتى في زمن النبي الأكرم) ينقسمون الى مؤمنين مخلصين، ومنافقين انتهازيين، وحتى المؤمنين قد ينقلبون الى منافقين عندما تغرهم الدنيا ويتعرضون لامتحانات الحياة المالية والجنسية والسياسية.
ان الحركات الإسلامية تتألف من رجال قد يكون اغلبهم في البداية مخلصين لشعاراتهم واهدافهم، ولكنهم يضمون نسبة عالية او منخفضة من المنافقين، او المؤمنين الذين ينافقون في المستقبل، فيبحثون عن المصالح المادية والسياسية، فينقلبون على رفاقهم وعلى المجتمع ، ويصبحون طغاة جددا في ثياب إسلامية، وهذا التحول والانقلاب كان مشاهدا من جيل الصحابة، مرورا بجميع الحركات التي أعلنت المعارضة ورفعت لواء الإصلاح، الى الحركات المعاصرة التي انقلب بعضها على اعقابه، وتحالف مع المستعمر أو العسكر او البلاط، أو استلم السلطة وتنكر لمن رفعه الى اعلى.
وفي الحقيقة ان الإسلاميين المنتمين للحركات الإسلامية، يكونون عادة ، مخلصين جدا عندما يفكرون فقط بالدعوة الى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما يقارعون الظالمين والفاسدين والمحتلين، ولا يفكرون بالفوز بالانتخابات وتولي السلطة، ولكنهم عندما يفكرون بالسلطة والجاه والزعامة ويسعون لها، يضطرون لمداهنة الجماهير او مداهنة الحكام او المستعمرين، وفي النهاية يتخلون عن نقائهم وطهرهم واخلاصهم، ويقبلون بالمعادلات القائمة، وقد ينقلبون الى مستبدين وعملاء وخونة وظالمين يضطهدون معارضيهم والرادين عليهم، او حتى منافسيهم من الإسلاميين الآخرين.
وربما يبدو النفاق باكرا، عندما يضيق الدعاة بالدعاة الآخرين، حتى في مرحلة الدعوة ما قبل العمل السياسي، ويتفاقم التعصب الحزبي، والتنافس على كسب الأتباع والأنصار.
ويشتد الصراع على السلطة بين الإسلاميين، كما بين غيرهم، في حالة استفراد الأحزاب الإسلامية لساحة المعركة السياسية بعيدا عن حضور الجماهير، أو غياب الأمة، وانعدام دستور أو قانون ينظم الحياة السياسية. ويمكننا ملاحظة تحول بعض الزعماء المسلمين، أو الأحزاب الإسلامية ، في حالة تسلم السلطة، الى الديكتاتورية والاستبداد، وسحق المعارضة وتحطيم المعارضين والمنافسين، من دون مبرر، واتهامهم بالنفاق أو العمالة والخيانة، ظلما وعدوانا، بهدف احتكار السلطة بيد هذا الزعيم أو ذلك الحزب.
وكما يحدث انقلاب داخلي في بعض الأحزاب الإسلامية من قيادتها على أعضائها، يمكن أيضا أن يتكرس الانقلاب الديكتاتوري على الأحزاب الأخرى (الإسلامية) اذا كانت تنتمي الى طوائف أخرى أو قوميات أخرى. حيث تحاول بعض الأحزاب الاستفادة من الشعارات الإسلامية في مد نفوذها القومي والإقليمي والطائفي، وتعمل من أجل تحقيق أهدافها الطائفية أو القومية.
ولدى دراستنا لبعض الحركات الإسلامية المعاصرة، نجد أن بعض الزعماء الانتهازيين المنافقين يستعينون بأحزابهم و عشائرهم وطوائفهم وأقوامهم لكي يصعدوا الى السلطة، ولكنهم ينقلبون على اخوانهم في الحزب والعشيرة والطائفة، ولا يفكرون الا بانفسهم، وعوائلهم الضيقة ، ويكونون سلبيين مع الأحزاب الإسلامية الأخرى، فضلا عن الأحزاب العلمانية، في الطوائف الأخرى.
انهم يبنون امبراطوريات خاصة لهم بعيدا عن الإسلام والوطن والشعب.
وهكذا تسير عجلة الديكتاتورية، ويسلب الطغاة (الخلفاء) حقوق الناس وحرياتهم، ويهمشون الأمة الإسلامية، ويمنعونها عن ممارسة خلافة الله في الأرض، ويبعدونها عن أداء دورها في الحياة.
ما هو الحل؟
لا يمكن حل المشكلة الا في ظل حركة شعبية واعية وثقافة ديمقراطية داخل الأحزاب وخارجها بحيث تحول دون تفرد الزعماء او الأحزاب، بالسلطة،
لا بد ان تنبثق الحركات الإصلاحية إسلامية او غير إسلامية من ضمير الشعب وتعيش في احضانه، لا ان تنفصل عنه وتنطوي على نفسها، وتنقلب على الشعب وتخدم مصالحها الحزبية فقط.
واذا كانت الشريعة الإسلامية مقدسة، فان من يدعي القيام على تنفيذها ليس مقدسا، وانما هو انسان قد يكون مؤمنا، وقد يكون منافقا انتهازيا، فلا يجوز ان يتم الخلط بين الإسلام والإسلامي (الزعيم أو الحزب، أو الحكومة) ولا بد من نزع القدسية عن الحاكم مهما كان عالما تقيا ورعا، او حتى صحابيا كبيرا كالامام علي بن ابي طالب، الذي كان يدعو الناس الى انتقاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، حيث يقول:” اني في نفسي لست بفوق أن اخطئ، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فان من استثقل الحق ان يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما اثقل عليه” ويقول: اذا أخطأت فقوموا وقولوا اتق الله يا علي بن ابي طالب!
وهذا ما يؤكد الطابع المدني للحاكم المسلم، وعدم جواز إضفاء طابع ديني عليه حتى لو كان خليفة راشدا أو يقيم حكما إسلاميا. وذلك لأن المزج بين الإسلام والحاكم “الإسلامي” يمهد الطريق نحو الديكتاتورية ويسلب الأمة دورها في خلافة الله في الأرض.
وفي الحقيقة لا يمكن الاكتفاء بتقديم النصح للحركات الإسلامية بتقوى الله وعدم الاستكبار في الأرض، وتجنب الاستبداد، واحترام كلمة الأمة، فان أي انسان واي حركة واي حزب يميل الى الدنيا وقد ينقلب على ذاته وعلى الإسلام والأمة، ومن هنا فلا بد من تعزيز أسس الديمقراطية في المجتمع، بإقامة توازن القوى والأحزاب والطوائف والقوميات والطبقات، وتعزيز ثقافة تبادل السلطة بشكل سلمي، ورفع مستوى الثقافة العامة والتعليم والغنى والاستقلال الاقتصادي والايمان الشعبي العام بالدستور والنظام الديمقراطي واحترامه.
وهكذا فقط نستطيع تحقيق خلافة الأمة لله في الأرض في ظل الديمقراطية، وليس في ظل الاستبداد والديكتاتورية.Attachments area