ما هو دور الوزير الشيعي ابن العلقمي في سقوط الخلافة العباسية؟
١
النظام العباسي وعلاقته بالشيعة من البداية حتى النهاية
الخلافة العباسية الضعيفة في عهدها الثاني تفتقد السلطة في المركز وفي الأطراف
محاولة المؤرخيين الطائفيين القاء اللوم في سقوط الخلافة العباسية على هذا أو ذاك
٢
ضعف الدولة العباسية في العقود الثلاثة الأخيرة قبيل احتلال هولاكو لبغداد
اتهام الخليفة الناصر بتحريض المغول ضد الدولة الخوارزمية
سيطرة المماليك على الخلفاء العباسيين المستنصر والمستعصم
المملوك الشرابي يعين الخليفة المستعصم الضعيف
المملوك الدوادار ومحاولة الانقلاب على المستعصم
٣
عدم وجود جيش نظامي قوي المشكلة الأساسية التي واجهت حكومة بغداد أيام الخليفة المستعصم
الخليفة المستعصم وخيار المفاوضات والاستسلام
انهيار المقاومة في العراق
هولاكو يطالب الخليفة المستعصم بالاستسلام دون قيد أو شرط مسبقين
احتلال بغداد ٧ صفر ٦٥٦
٤
اتهامات المؤرخين السنة لابن العلقمي
دور العناصر المسلمة من خارج أراضي الدولة العباسية في اسقاط الخلافة في بغداد
لا يمكن لأية أمة ان تعيش وتتقدم من دون دراسة التاريخ وأخذ العبر من سلبياتها ونكساتها وهزائمها، والعمل على معالجة ثغراتها، وتعزيز عناصر القوة فيها. ولكن الأمم المتخلفة تقرأ التاريخ عادة بصورة سلبية، وذلك باهمال الدراسة العلمية الفاحصة التي تحاول معرفة العناصر الإيجابية والسلبية، وتركز لدلا من ذلك على بعض العناصر السلبية، أو تختلق من نفسها عناصر سلبية أخرى لتصب الزيت على نار الفتنة والتخلف والانحطاط، ولا تتذكر التاريخ الا لكي تخوض حربا جديدة ضد هذه الفئة من المجتمع أو تلك، وابرز مثل على القراءة السلبية للتاريخ هو القاء اللوم على شخص أو طائفة من المسلمين (الشيعة) في سقوط الدولة العباسية في منتصف القرن السابع الهجري، واتهام الوزير ابن العلقمي بالتواطؤ مع المغول من أجل احتلال عاصمة الخلافة بغداد. وهو اتهام نشره بعض المؤرخين السابقين ويردده بعض الطائفيين اليوم، من أجل اتخاذه مادة وسلاحا في الصراع الطائفي المحموم في هذه الأيام.
فهل كان للشيعة فعلا دور سلبي في سقوط الخلافة العباسية؟ أم ان الخلافة نفسها كانت متداعية، وان نظام الخلافة السياسي كان ضعيفا سمح بتولي خلفاء غير أكفاء، وتفتيت الدولة الإسلامية واضعافها بصورة عامة، بحيث انهارت أمام الغزو المغولي بسهولة.
ان افضل من أجاب على ذلك هو الدكتور السعودي سعد بن حذيفة الغامدي في كتابه (سقوط الدولة العباسية ودور الشيعة بين الاتهام والحقيقة) الصادر عام ١٩٨١
النظام العباسي وعلاقته بالشيعة من البداية حتى النهاية
من المعروف ان العباسيين في بداية أمرهم، كانوا فصيلا من المعارضة الشيعية الواسعة ضد الأمويين، وكان الخلفاء الأوائل كأبي العباس السفاح والمنصور والمهدي من المتطرفين الروافض الذين ينتقدون الخلفاء الراشدين الثلاثة بتهمة استيلائهم على الخلافة دون وجه حق، وان الخلافة من حق (العترة) ولكن العباسيين بدءا من هارون الرشيد مالوا لأهل السنة ونظرية الشورى، في مقابل نظرية (النص) التي طرحها منافسوهم من أبناء عمهم العلويين، ثم تصالحوا في عهد المأمون والواثق والمعتصم والمتوكل والمعتمد، مع جناح من العلويين هم (الأئمة الموسوية: الرضا وابناؤه واحفاده: الجواد والهادي والعسكري) في القرن الثالث الهجري. وشعر العباسيون في القرن الرابع الهجري بأن الشيعة غلبوا عليهم وكادوا يقضون على دولتهم، فمن جهة كان الشيعة الزيدية يقضمون قسما من دولتهم في طبرستان واليمن، ومن جهة ثانية كان الشيعة الفاطميون (الاسماعيليون) يسيطرون على قطاعات واسعة من مملكتهم في افريقيا والحجاز والشام، ومن جهة ثالثة كان الشيعة البويهيون يحتلون عاصمتهم بغداد ويحكمون العراق وفارس، بحيث لم يبق للعباسيين من السلطة الا الاسم والمنبر والخطبة، فما كان من الخليفة العباسي القادر (٣٨١-٤٢٢)، الا ان يتبع استراتيجية مضادة لعموم الشيعة ، بتجميع المذاهب السنية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) تحت راية الخلافة العباسية، في مواجهة التكتلات الزيدية والفاطمية والبويهية (الاثني عشرية).
ولكن عندما قام السلاجقة الأتراك بالقضاء على البويهيين في أواسط القرن الخامس، وانزوى الزيدية بعيدا في جبال صعدة في اليمن، واستطاع صلاح الدين الأيوبي القضاء على الفاطميين في مصر، في أيام الخليفة المستضئ بالله في عام 567هجرية، شعر الخليفة العباسي الجديد الناصر لدين الله ( 575 ـ 622هـ) بأن الوقت قد حان لتبني خطاب فكري سياسي تصالحي يميل الى الشيعة الامامية الاثني عشرية، والقول بحق الامام علي بالخلافة، كما يقول المؤرخ ابن واصل الحموي وآخرون. وقام هذا الخليفة بتعمير سرداب الغيبة في سامراء، وهو السرداب العميق الذي اعتقد الشيعة بأن (الامام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) قد اختبأ فيه منذ أواسط القرن الثالث الهجري.
ويمكننا تفسير هذا التوجه (الشيعي) من قبل الخليفة العباسي الناصر، بعدم خشيته في ذلك الوقت من الشيعة (الاثني عشرية) الذين لم يعد يوجد لهم امام يقاوم الخليفة وينازعه السلطان، فلم يكن لدى الخليفة مانع من تبني النظرية الاثني عشرية والحلول محل (الامام الغائب). كما زالت الحساسية من (الشيعة) الذين اصبحوا يوالون الخليفة العباسي، كما يواليه أبناء السنة. ولذلك لم يكن الخلفاء العباسييون فيما بعد يحذرون من تولية وزير شيعي كابن العلقمي، الذي خدم الخليفتين الأخيرين المستنصر والمستعصم، لعدم امتلاكه لأي مشروع سياسي مضاد للخلافة العباسية.
النظام السياسي العباسي
قامت الدولة العباسية على انقاض الدولة الأموية، عام ١٣٢هـ، ولكنها بدأت في القرون اللاحقة تفقد سيطرتها على العاصمة بغداد، والأقاليم الإسلامية، حيث سيطر البرامكة الفرس على الدولة في عهد هارون الرشيد، قبل القضاء عليهم، ثم سيطر العساكر الأتراك الذين استقدمهم المتوكل، فقتلوه واستبدوا بالأمر عقودا من الزمن، الى أن جاء البويهيون في القرن الرابع الهجري واجتاحوا عاصمة الخلافة وفرضوا على الخلفاء أن يفوضوهم السلطنة أو بالأحرى يقوموا بتغطيتهم شرعيا، الى أن جاءت قوة أخرى، هم السلاجقة، الذين فرضوا أنفسهم على مركز الخلافة ، ولم تستعد الخلافة العباسية قوتها الا فترة قصيرة حوالي خمسة واربعين عاما في عهد الخليفة الناصر لدين الله ( 575 ـ 622هـ) ثم عادت فانتكست في عهد الخليفتين التاليين المستنصر والمستعصم، عندما سيطر المماليك الأتراك على السلطة في بغداد.
هذا في الداخل، وأما في الخارج، فقد فقدت الخلافة العباسية وحدتها، أمام أمراء الأقاليم الذين اخذوا يستقلون بها ولا يتبعون الخليفة الا بصورة رمزية، ثم استقل الأمويون في الأندلس، والزيدية في اليمن، والاسماعيلية في شمال افريقيا والجزيرة والشام، والخوارزمية في الشرق، والحمدانيون في الموصل وحلب، والايوبيون في الشام، والسلاجقة في الأناضول، وبعض الامراء الآخرين هنا وهناك، ولم يبق تحت سيطرة الخلافة العباسية، ولا سيما في عهود الظاهر (622هـ – 623هـ) والمستنصر (623هـ – 640هـ) والمستعصم (640هـ – 656هـ) الا ما تبقى من العراق والأهواز، ولم تعد كلمة الخليفة تسمع في معظم البلاد الإسلامية (السنية) ولم يعد الخليفة العباسي نفسه يهتم بالدفاع عن البلاد الإسلامية التي كانت تتعرض للغزو الصليبي في الغرب أو الغزو المغولي في الشرق.
واضافة الى تمزق العالم الإسلامي والصراع بين دوله المختلفة، حتى مع دولة الخلافة العباسية، وسيطرة المماليك على قلب الخلافة بغداد، فان النظام العباسي السياسي (الوراثي) كان يشكل سلبية كبرى، ساهمت بانهيار الدولة العباسية أمام الغزو المغولي الكاسح. فعندما خرج المغول في بداية القرن السابع الهجري، كان بإمكان الدولة العباسية أن تستجيب للتحدي، وتستنهض الأمة وتبني منها قوة كبرى، لو كان ثمة خليفة قوي شجاع يتحمل مسئولياته بكفاءة، وهذا كان ممكناً لو كان للأمة الإسلامية دور في انتخاب الخليفة وتخطيط استراتيجية الدفاع. بيد أن بنية النظام السياسي العباسي القائمة على الوراثة، والخاضعة لتلاعب الحاشية، وسيطرة المماليك، والبعيدة عن إرادة الأمة، سمحت بولادة “خليفة” ضعيف كالمستعصم، الذي “كان ضعيف الرأي والبصر بتدبير الأمور” بدلاً من عمه (الخفاجي بن الظاهر بأمر الله). وكما يقول جلال الدين السيوطي في (تاريخ الخلفاء): فقد “كان للمستنصر أخ يقال له الخفاجي فيه شهامة زائدة، وكان يقول: لئن وليت لأعبرنَّ بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار واستأصلهم، فلما مات المستنصر لم يرَ الدويدار ولا الشرابي (وهما القائدان العسكريان المملوكان المسيطران بالقوة على الخلافة) تقليد الخفاجي خوفاً منه، وأقاموا ابنه أبا أحمد (المستعصم) للينه وضعف رأيه، ليكون لهما الأمر” . المصدر، ص 425
وهذا ما يدل على أن المماليك والنظام السياسي الوراثي الفاسد هو الذي جاء بالخليفة الضعيف في أيام الأزمة الكبرى، بعيداً عن إرادة الأمة ورأيها، وكانت النتيجة أن دخل المغول بغداد في سنة 656 وقتلوا الخليفة المستعصم وقضوا على الخلافة العباسية.
ولكن بعض المؤرخين الطائفيين المنحازين حاولوا ويحاولون التفتيش بسهولة عن شماعة ليلقوا عليها مسؤولية الهزيمة الكبرى التي أصابت الأمة الإسلامية، ويبحثوا عن أشخاص معينين كالوزير مؤيد الدين أبي طالب محمد بن أحمد العلقمي (الشيعي) ليتهموه بالتواطؤ مع الغزاة، وينسون الوضع السياسي العام وضعف النظام السياسي ومسئولية الخليفة، وما استتبعه من انهيارات عسكرية، في تشكيل الهزيمة الكبرى.
ما هو دور الوزير الشيعي ابن العلقمي في سقوط الخلافة العباسية؟ –٢
ضعف الدولة العباسية في العقود الثلاثة الأخيرة قبيل احتلال هولاكو لبغداد
في الوقت الذي كان المغول ينطلقون نحو احتلال العالم، في أواخر القرن السادس الهجري، بعدما قرر جنكيز خان (توفي ٦٢٤) توحيد العالم تحت قيادة شخص واحد، وهو الخان المغولي، قائلا: ” ان في السماء ربا واحدا، فليكن هناك حاكم واحد على الأرض” وقام بتوحيد قبائل المغول في منغوليا ثم بدأ بشن حملات عسكرية جبارة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا فاحتل الصين والهند وروسيا ونصف أوربا ، وبدأ يقضي على الدول الإسلامية واحدة بعد الأخرى، فقضى على الدولة (الايغورية) ثم (الخوارزمية) واصبح جارا لدولة الخلافة العباسية في العقد الثاني من القرن السابع الهجري، في أيام الخليفة العباسي الناصر لدين الله (٦٢٢). في هذا الوقت العصيب كان النظام العباسي يعيش – كبقية الأنظمة السياسية المعاصرة له – في اضعف حالاته، وفي الوقت الذي كان يفترض بالخلافة العباسية التي شاهدت الغزو المغولي لمعظم أنحاء العالم أن تتهيأ لمقاومة ذلك الغزو، وتبني قواتها الخاصة، وتهيئ الأمة الإسلامية للمقاومة، ولكن الخليفة الناصر لم يكن يهمه الا المحافظة على عرشه المحدود في العراق والأهواز، ولم يقم بما كان يحتمه عليه منصبه، كقائد ديني لجميع المسلمين، لا ضد المغول ولا ضد الصليبيين الذين كانوا يهاجمون مصر وبلاد الشام. ولم يفكر بالطبع في الدفاع عن الدولة الخوارزمية المجاورة له في الشرق، ضد المغول، لأنه كان على خلاف سياسي مع السلطان محمد، وكان يخشى ان يقوم هذا باحتلال بغداد، مما سمح لجنكيز خان بالقضاء على تلك الدولة (الخوارزمية) والوصول الى حدود العراق الشرقية. وقد اتهم جلال الدين ابن السلطان الخوارزمي، الخليفة الناصر بأنه هو المسؤول عن تدمير والده، عندما اغرى “الكفار” ليغزوا أراضي والده. وكتب رسالة بهذه الاتهامات ضد الناصر الى الأمير الأيوبي المعظم عيسى، وطلب منه مناصرته في هجوم مشترك ضد الخليفة الناصر.
وقد ذكر ذلك الاتهام سبط ابن الجوزي في (مرآة الزمان ج٢ ص ٥٩٩) والمؤرخ السوري أبو شامة في (تراجم رجال القرنين، ص ١٤٤) وابن الأثير في (الكامل، ج٩ ص ٣٦١) وأضاف المؤرخ ميرخواند في (روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء) ارسال الخليفة الناصر رسولا الى الديار المغولية لترغيب وتحريض جنكيزخان على أن يقصد أراضي الإسلام وليقطع ويقمع السلطان..”.
ولكن الدكتور الغامدي يشكك بصحة هذا الاتهام، ويعزوه الى أسباب سياسية.
الغامدي، سقوط الدولة العباسية، ص ١٦٦-١٦٧
وفي الحقيقة لم يكن الخليفة الناصر قادرا على الدفاع عن الدولة الخوارزمية، أو المناطق الأخرى المهددة من قبل المغول، لأنه لم يكن يملك جيشا قويا قادرا على الدفاع عن دولة الخلافة العباسية، وعندما قام فوج مغولي صغير في سنة ٦١٨ بالهجوم على اربيل، أصيب سكان المنطقة بالهلع والرعب، وعندما سمع الخليفة الناصر ان المغول متجهين نحو أراضيه لم يستطع تحشيد قوة كافية لصد العدوان، أكثر من ثمانمائة رجل. ولم يملك سوى الطلب من الناس التوجه الى المساجد للصلاة والقنوت في العبادة والدعاء على المغول، وأن يصرف الله عنهم الغزاة الكفار ويدمرهم.
أبو شامة ، تراجم، ص ١٢٨ والذهبي، تاريخ الإسلام
الغامدي ص ١٨٣
الظاهر والمستنصر
بعد وفاة الخليفة الناصر، ورث الخلافة منه ابنه الظاهر الذي لم يستمر فيها أكثر من عام واحد، ليورثها لابنه المستنصر، الذي حكم حوالي سبعة عشر عاما، ولكنه اصبح ألعوبة في أيدي رجال البلاط، والخدم، والمماليك ، حيث اقفل على نفسه أبواب القصر، وأحاطها بسياج من الحرس، واصبح يعيش في عزلة تامة، لا يعرف حقيقة ما كان يجري من أحداث خارج أسوار قصره، الا النزر القليل، كما لم يكن يعلم بمجريات الأحداث في عالم وقته، اذ كان يعيش وراء العديد من الأبواب المغلقة.
وكانت جميع شؤون المستنصر الخاصة وكل ما يتعلق بشؤون الدولة العباسية في يدي المملوك التركي شرف الدين اقبال الشرابي، يديرها حسب رغباته وميوله، كأنه الحاكم الفعلي والوصي المدير للخليفة نفسه، بحيث عندما توفي المستنصر لم يعلم به حتى أهله مدة يومين. الى أن قام الشرابي بتعيين خلفه (المستعصم). ورتب أمور الخلافة، وأجبر اعضاء الأسرة العباسية على مبايعته.
الغامدي، سقوط الدولة العباسية، ص ٢٢١
وفي الوقت الذي كان المغول يجندون مئات الألوف أو الملايين من أبناء المناطق الإسلامية المحتلة، لمواصلة هجومهم على البلاد الأخرى، كان الخليفة العباسي المستنصر عاجزا عن تأليف قوة عسكرية كفوءة قادرة على الدفاع عن العراق، فقد كان جيش الخلافة صغيرا جدا وحقيرا جدا، لا يجدي فتيلا، ويتكون معظمه من مماليك الخلفاء السابقين، الذين يسمون بأسماء أسيادهم من الخلفاء ، ويعرفون بمماليك الناصر، والظاهر والمستنصر. وكان هؤلاء المماليك يدينون بالطاعة لابن جلدتهم اقبال الشرابي اكثر مما يدينون للخليفة نفسه. وعندما توفي الشرابي اطاعوا (الدويدار الصغير) الذي حل محله.
ولذلك، عندما اشتدت هجمات المغول ضد دولة الخلافة، سنة ٦٣٥ حاول المستنصر تجنيد المواطنين من البدو والمزارعين وعامة الناس ، وشكل جيشا من سبعة آلاف مقاتل بقيادة الشرابي، ووجه دعوة عامة الى الحكام المسلمين المجاورين له ، لتقديم يد المساعدة ضد الغزاة، فارسل الحكام الايوبيون في سوريا وشهرزور الف وستماءة رجل، وخاض معركة مع المغول على ارض خانقين ولكنه هزم هزيمة ساحقة.
الغامدي، ص ١٨٩
واضطر المستنصر، بعد تلك الهزيمة، الى ايفاد القاضي فخر الدين، الى الخان المغولي في (قرا- قروم) في منغوليا لالتماس السلام منه واسترضائه بالهدايا والتحف الثمينة.
الغامدي، ص ١٩٥
وكنتيجة لعجز الخليفة المستنصر في الدفاع عن الأراضي الإسلامية، وفشله في تقديم أية مساعدة لحاكم الموصل بدر الدين لؤلؤ ضد الغزاة، قام هذا بالتوصل الى نوع من التفاهم السلمي مع المغول، لكي يتفادى غزوات المغول المدمرة ضد أراضيه، واصبح واحدا من الحكام التابعين للمغول، وبات لزاما عليه ان يستجيب لدعوة اسياده المغول، بتقديم مساعدة عسكرية وغيرها مساهمة منه لهم في اية عملية عسكرية يقومون بها.
الغامدي، ص ١٨٧
المستعصم (٦٤٠-٦٥٦)
واذا كان المستنصر ضعيفا الى تلك الدرجة، فان خلفه (المستعصم) كان أكثر ضعفا منه، فقد اختاره أكبر رجل في البلاط القائد العسكري المملوك اقبال الشرابي، من بين أضعف شخصيات الأسرة العباسية، لكي يتمكن من السيطرة عليه وتوجيهه كما يشاء، وذلك بعد أن أخفى خبر وفاة المستنصر (المعزول بين الجدران) يومين، عن اسرته، ما عدا (المستعصم) الذي اتفق معه بصورة سرية وسريعة أن يكون (الخليفة القادم) الا ان الأسرة العباسية رفضت الاعتراف به، لمعرفتهم التامة بضعف شخصيته، وبعدم لياقته للخلافة. فأخذ الشرابي كل فرد منهم، بمفرده الى حضرة المستعصم لكي يبايع، واخباره بأن البقية قد بايعوا له بالخلافة. واعتقل كل من رفض البيعة في سجن خاص، ومنع عنهم الشراب والطعام حتى شارفوا على الموت، فبايعوا مكرهين.
وقد وصفت المراجع التاريخية المستعصم بأنه ضعيف غير كفؤ لمنصب الخلافة، مستضعف، وغير خبير بمهام الأمور، فلم يعرف عنه أبدا ما يدل على حسن ادارته لدولته، طوال فترة الست عشرة سنة التي قضاها في منصب الخلافة. وقد وصفه محمد علي ابن الطقطقا بما يلي: كان المستعصم رجلا خيرا متدينا لين الجانب سهل العريكة عفيف اللسان، حمل كتاب الله… وكان سهل الاخلاق، وخفيف الوطأة، الا انه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش قليل الخبرة بأمور المملكة مطوعا فيها غير مهيب النفوس ولا مطلع على حقائق الأمور. وكان زمانه ينقضي أكثر بسماع الأغاني والتفرج على المساخرة، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسا ليس فيه كبير فائدة…”. (الفخري في الأداب السلطانية والدول الإسلامية)
الغامدي، ص ٢٠٣ – ٢٠٤
ما هو دور الوزير الشيعي ابن العلقمي في سقوط الخلافة العباسية؟
من هم الملوك والسلاطين المسلمون الذين اشتركوا مع هولاكو في احتلال بغداد؟
٣
المشكلة الكبرى
لقد كان عدم وجود جيش نظامي قوي المشكلة الأساسية التي واجهت حكومة بغداد أيام الخليفة المستعصم. ولم يبلغ جيش الخلافة أكثر من خمسة آلاف رجل فقط طوال العقود الأخيرة من عمر الخلافة حتى سقوط بغداد.
الغامدي، ٢١٧
يقول الدكتور الغامدي:”على الرغم من ان المؤرخين ينسبون اهمال شؤون الجيش وقطع ارزاقهم الى الخليفة المستعصم، متهمين في ذلك وزيره مؤيد الدين ابن العلقمي، بأنه هو الذي حرض الخليفة على فعل ذلك ليوفر أموالا لخزينة الدولة، فان الذي يظهر لنا هو ان أولئك الرؤساء المماليك كالشرابي والدويدار الصغير، والذين كانت زعامة المماليك بأيديهم هم الذين قاموا بتصفية جيش الدولة العباسية في العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة من عمرها، من جميع العناصر الأخرى. وبذلك اقتصرت قوات المستعصم خاصة على المماليك من جنسهم، ليكون لهم القول الفصل في كل أمر من أمور الدولة، ثم سرحوا الجنود بحيث كانوا يتسولون الناس في بغداد”.
الغامدي، ص ٢٢٣
الصراع الطائفي
وعندما توفي اقبال الشرابي سنة ٦٥٣ تولى (الدوايدار الصغير) قيادة الأتراك المماليك، الذين كانوا يمثلون القوة العظمى للحكومة، وحاول القيام بانقلاب على الخليفة المستعصم واحلال ابنه الأكبر (أبي العباس) مكانه، لولا قيام الوزير ابن العلقمي بكشف مؤامرته، مما أدى الى حدوث تنافس وعداء وصراع بين الوزير والدويدار، الذي كان يفترض أن يكون تابعا للوزير، الا انه كان يعتمد على قوته العسكرية، ويسمح لنفسه بالتمرد على الخليفة والوزير، وبما ان الوزير كان ينتمي الى الطائفة الشيعية، فقد انتقل الخلاف بين الاثنين الى الشوارع والأسواق والأحياء، وحدث قتال عنيف بين السنة والشيعة في بغداد، خلف أعدادا كبيرة من القتلى والجرحى. وانتشرت حالة من الفوضى والاضطراب وفقدان الأمن.
الغامدي، ٢٠٦
يروي ابن الفوطي في كتابه (الحوادث الجامعة) الذي يعتبر سجلا يوميا لحوادث بغداد خلال سنواتها الأخيرة كعاصمة للعباسيين، انه كانت تندلع اشتباكات طائفية وكان الدوادار الصغير يرسل مجموعة من اتباعه المماليك ليحولوا دون سفك الدماء، الا ان المماليك كانوا ينحازون الى جانب اهل السنة ضد الشيعة، وكانت المعارك تسفر عن اعداد كبيرة من القتلى والجرحى ونهب المنازل وهتك اعراض النساء.
الغامدي ٢٠٨ نقلا عن ابن الفوطي، وابن كثير وابن خلدون والعمري وغيرهم.
الخليفة المستعصم وخيار المفاوضات والاستسلام
وأخيرا أصدر الخان المغولي (منكو قاآن) الى أخيه الأصغر هولاكو بالتوجه نحو العراق، في طريقه الى الأراضي الشامية والمصرية، وأن يدعو الخليفة العباسي الى الاستسلام طواعية، وإعلان الولاء والطاعة للمغول، واذا رفض الاستسلام فعلى هولاكو أن يمضي قدما ويدمر الخليفة.
الغامدي، ص ٢٥٢
وقام خان المغول (منكو قاآن) بارسال رسل ووفود تحمل أوامره العليا الى جميع الحكام والملوك والسلاطين التابعين له، كالسلاطين السلاجقة في أراضي بلاد الروم، والأتابك بدر الدين لؤلؤ حاكم الموصل وتوابعها، وأتابك فارس، وحاكم كرمان، تقضي بأن يساهم كل فرد من أولئك الحكام بنصيب وافر من الرجال والعتاد ومؤن الجيش، لتنضم تحت خدمة هولاكو. مما يكشف بأن جميع دول الإسلام ، تقريبا، من الحدود الشرقية لتركستان حتى حدود أراضي العراق كانت في حقيقة الأمر مشتركة بشكل أو بآخر في حملة المغول الغازية ضد إخوانهم المسلمين في العراق.
الغامدي ٢٣٢ و ص ٢٥٥
ونتيجة للضعف العام الذي كان ينخر في جسد الدولة العباسية، وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها، فقد اقترح الوزير ابن العلقمي، عشية اقتراب هولاكو من العراق في حملته الأخيرة، وجوب استرضاء ذلك العدو الغازي وملاطفته، وذلك بارسال الهدايا والتحف وكتيبة صغيره لتشارك في حربه ضد الإسماعيلية، وذلك لكي يخفف من وطأته على الخليفة وعلى اهل بغداد، ولكن الدوادار الصغير اغتنمها فرصة واتهم عدوه بالتآمر مع المغول ضد الخليفة، لينتقم من خصمه ويرد التهمة السابقة بأخرى مماثلة ضد الوزير.
الغامدي ص ٢١٥
وعندما اقترب هولاكو من العراق، طلب الخليفة المعتصم من الدوادار الصغير وسليمان شاه قائد التركمان وعز الدين ابن كر أمير الأكراد، ان يتشاوروا مع الوزير ابن العلقمي في مسألة الدفاع عن بغداد، ولكنهم اتهموه بالخيانة والتآمر مع المغول، ولم يطيعوا الخليفة واستقلوا برأيهم وتبنوا سياسة دفاعية بأنفسهم. ثم توسل الخليفة الى الدويدار وسلمان شاه أن يذهبا لمقابلة هولاكو خارج بغداد للتفاوض معه في مسألة إمكانية إيجاد حل سلمي لمسألة الدخول الى بغداد. ولكنهما رفضا أيضا.
الغامدي، ص ٢٢٦
وقرر الدوادار أن يعسكر بجيش المماليك والأكراد في مواجهة المغول في بعقوبة شرق العراق، ولكن جزء من الجيش المغولي التف عليهم من الغرب ، فانسحبوا وذهبوا لمواجهته بالقرب من الأنبار، فاستغل هولاكو انسحاب الجيش من الشرق وهاجم بغداد، في الوقت الذي كان جنوده في الغرب يلحقون هزيمة ساحقة بجيش الدوادار والمماليك في الأنبار.
ص ٢٣٠
يستنتج الدكتور الغامدي : “من محتويات رسائل الخليفة المختلفة، ومن الاطلاع على مجريات الأحداث يمكن الاستنتاج أن الخليفة كان يريد ان يذعن لشروط هولاكو، ويخرج من عاصمته لمقابلة خصمه، ولكن الدويدار الصغير لم يتركه يفعل، فالمستعصم كان يحبذ استرضاء المغول والاستجابة لمطلب قائدهم، ولكنه لم يستطع ان يفرض ما رآها مناسبا في وضع مثل وضعه”.
الغامدي، ٢٨٧
ويضيف الغامدي:” اما وجهة نظر ابن العلقمي، ومن حذا حذوه، فانه – بعكس ما كان يدعيه خصومه ضده من اتهامات تمليها حزازات شخصية واحقاد دفينة، بوازع من التعصب المذهبي الأعمى – كان يرى وينصح بوجوب استرضاء الغزاة، وذلك كي يخفف من حدة وحشية المغول المحتومة ضد السكان الآمنين داخل بغداد. وقد أيد الخليفة نفسه هذا الاقتراح الذي قال به الوزير، وأمر بأن يشرع في تنفيذ ما نصح به ابن العلقمي. ومع هذا فقد عارض الحزب الذي يتزعمه الدوادار هذه الفكرة بشدة، وندد بها، كما هدد ان يحارب ضد كل من يحاول تنفيذ ما رآه الوزير ووافق هوى الخليفة، ويتصدى لها ويصادر كل شيء يرسل لاسترضاء المغول”.
الغامدي، ٢٣٣
وبعد هزيمة الدوايدار في الأنبار، استسلم هو وسليمان شاه أخيرا لهولاكو وخرجا مع قواتهما اليه، فقتلهم جميعا قبل ان يدخل بغداد.
وطالب هولاكو الخليفة المستعصم بالاستسلام دون قيد أو شرط مسبقين، فاستسلم الخليفة له، واصدر منشورا يطالب فيه الناس بأن يسلموا أسلحتهم للمغول، وبعد حوالي أسبوعين من الحصار دخل المغول بغداد بصحبة كثير من الجنود المسلمين، واخذوا يقتلون الأهالي العزل من السنة والشيعة ويحرقون المنازل، ثم دخل هلاكو في اليوم السابع من صفر سنة ٦٥٦ بصحبة الخليفة ، واخذ كل ما لديه من أموال وذهب ومجوهرات. وقتله في النهاية.
يقول الدكتور الغامدي:”يبدو لنا من الخطأ جدا القول بأن سقوط بغداد كان قد سببه المغول بصورة رئيسية واساسية… بل كان المسلمون أنفسهم ممن اشترك في هذه الكارثة التي حلت بالمسلمين الآخرين، وقد لعب أولئك المسلمون دورا بارزا وفعالا في نجاح العمليات العسكرية، التي ننسبها دائما الى المغول والتي قادها هولاكو خان”.
ص ٢١٧
وقد برر مؤلف كتاب (تاريخ جهانكشاي) علاء الدين ملك الجويني ، الذي كان مستشارا لهولاكو ، وأحد موظفي حكومته، ورافقه في حملته ضد الخلافة العباسية، برر غزو المغول للأراضي الإسلامية بأنه لم يكن الا تنفيذا لإرادة الله، كما كان يدعي المغول.
٤ ما هو دور الوزير الشيعي ابن العلقمي في سقوط الخلافة العباسية؟
اتهامات المؤرخين السنة لابن العلقمي
لعبت الخلافات السياسية الداخلية في دولة الخلافة، والخلافات الخارجية بينها وبين الدول الإسلامية الأخرى، دورا في إشاعة كثير من الاتهامات بالخيانة، والتآمر مع المغول، سواء ضد الخليفة الناصر الذي اتهمه الخوارزمية باستدعاء المغول للقضاء على منافسه السلطان محمد، أو ضد الوزير ابن العلقمي، الذي اتهمه الدوادار بالتآمر مع هولاكو، ومراسلته، بصورة سرية، وتسهيل دخول القوات المغولية إلى بغداد. وانه المسؤول عن اعفاء وتسريح مائة الف جندي من ١٢٠٠٠٠ جندي من جيش الخلافة من الخدمة العسكرية، وانه المسؤول عن غرق الجيش الذي خرج لمحاربة المغول في الأنبار. وانه كان وراء اعدام الخليفة المستعصم حتى لا يلتف حوله المسلمون ويطلقوا سراحه.
الغامدي، ص ٣٣٥
وقد لاقت هذه الاتهامات صدى واسعا وكبيرا لدى المؤرخين السنة في الشام والهند، الذين لم يشهدوا حادثة احتلال بغداد، ولم يكونوا في العراق، كالمؤرخ الجوزجاني المتعصب الطائفي السني الذي كان يعيش في دلهي بالهند في وقت سقوط بغداد. بينما لم يذكرها المؤرخان العراقيان ابن الفوطي والاربيلي، ولم يشيرا اليها.
وبعيدا عن تلك الاتهامات الطائفية المغرضة، يقول الدكتور السعودي سعد بن حذيفة الغامدي، الذي قام بدراسة أكاديمية عميقة ومحايدة لأسباب سقوط دولة الخلافة العباسية على أيدي المغول: “يبدو ان على المرء، قبل ان يصدر حكمه في مسألة مثل هذه، ان يأخذ في الحسبان أشياء واعتبارات كثيرة.
أولها: دراسة الأساس الذي بنيت عليه هذه المسألة، ثم التحري عن القائل (عن ميوله الكتابية، ومذهبه الديني) ثم الشخصية التي يعالج أمرها.
ثانيا: دراسة الأوضاع الداخلية والخارجية، وحيثيات الموضوع، من جميع جوانبه. اما ما يتعلق بمسألة اتهام ابن العلقمي، فلا يمكن لاي شخص ان يكون عادلا أو منصفا في حكمه ما لم يكن ذلك المرء على علم بعدة حقائق. ومن هذه الحقائق ما يتعلق بالعوامل الخارجية (وأعني بذلك حقيقة المغول، وسياستهم تجاه الشعوب، ثم نظرتهم العامة للعالم، وبتاريخهم، وفتوحاتهم، ثم على علم ، ولو كان بسيطا، عن كيفية تعاملهم مع الآخرين، ابتداء من “القاآن” نفسه في (قرا- قروم) انتهاء بالخادم، أو الراعي في البراري والسهوب. ومن هذه الحقائق التي لا بد من معرفتها ما يخص الناحية الداخلي (أعني نفس شخصية الوزير ذاته واسرته، ثم علاقته بسيده والاسرة التي يخدمها، ثم علاقته مع زملائه، ومنافسيه، وفوق ذلك كله ظروف الخلافة العباسية التي كانت تعيشها، ثم مدى فعالية وإمكانية تعاون الوزير – لو قلنا بقول المتهمين – في نجاح حملة هولاكو تلك. أما ان المرء يصدر حكمه لمجرد قراءة قرأها في مصدر تاريخي معين، ذي ميول واتجاهات تمليها أهداف أو مذاهب معينة، دون تمحيص أو تدقيق، أو اخذ الرواية على علاتها، فالاجابة على هذا خارجة عن نطاق هذا البحث”. ص ٣٤١
ويضيف الغامدي: “الذي نراه صحيحا في هذا الشأن – كما يبدو لنا – هو ان المؤرخين الذين اتهموا الوزير ابن العلقمي، وعلى رأسهم الجوزجاني، كانوا مؤرخين سنيين متطرفين، فقد وجهوا اليه تلك التهم أصلا بدافع من التعصب المذهبي، تمليه حوافز عدوانية، وعواطف تحاملية، يكنونها تجاه هذا الوزير المسلم الشيعي المذهب. لهذا فان المرء ليقف عند روايات من هذا القبيل موقف الشك، هذا اذا لم يرفضها رفضا قاطعا، وان ما أورده أولئك المؤرخون في تقاريرهم حول هذا الشأن لا يقوم على أساس علمي دقيق ومحقق”.
الغامدي، ص ٣٤٢
ويواصل الغامدي قائلا:”خدم ابن العلقمي الخلافة العباسية أكثر من ربع قرن من الزمن، حيث عينه الخليفة المستنصر رئيسا للتشريفات، ثم أستاذا لدار الخلافة، ثم ناظرا عاما لشؤون جامعة المستنصرية. وفي سنة ٦٤٢ رفعه الخليفة الجديد (المستعصم) الى مرتبة وزير، وقد ظل يحتل هذا المنصب طوال الخمس عشرة سنة التي تلت. وكان ابن العلقمي واحدا من رجال بغداد، وأعلامها البارزين، كما كان والده من قبله، الذي خدم بلده ومواطنيه، حيث حفر والده النهر المعروف بالعلقمي فسمي به”.
الغامدي، ص ٣٤٢
وذكر الغامدي أن المؤرخ السني سبط ابن الجوزي (المعاصر للغزو المغولي لبغداد) امتدح هذا الوزير وأشاد به اذ وصفه بأنه رجل ورع تقي مستقيم، وانه قارئ لكتاب الله الكريم، ولم يورد في مؤلفه لا من قريب ولا من بعيد اية إشارة قد يستدل منها على انتقاص من حق هذا الوزير، أو الطعن في ولائه، واخلاصه في وظيفته… وان المؤرخ الجوزجاني (الفارسي الهندي) نقل عن الخليفة عندما سمع بهذه التهمة قوله: “ان هذه الأقاويل لا بد أن يكون قد افتراها أيبك الدواد دار الصغير، وانه فوق ذلك، لا يمكن ان يقوم الوزير بعمل مثل هذا”. ص ٣٤٣
وقال الغامدي:”كان الوزير على علم تام، ويقين صادق، بعدم مقدرة الخلافة العباسية للقيام بالدفاع عن أراضيها الخاصة، ضد اية قوة، مهما كانت ضآلة وصغر حجم تلك القوة الخارجية المعتدية، فما بالك بقوة عملاقة وجبارة كالقوة المغولية، وبما ان ابن العلقمي كان على علم تام بهذه الحقيقة فقد قام بانذار الخليفة منهم، واطلاعه على حقيقة قوتهم، منذ أن شرع المغول في حصارهم ضد الاسماعيليين، وقلاعهم المنيعة في ايران، واستمر على ذلك حتى وصلوا الى ضواحي عاصمة الخلافة العباسية بغداد. ارتأى وجوب مهادنة المغول، واسترضاء سيدهم القائد، ببذل الهدايا والتحف للقادة الكبار منهم، وكان الخليفة نفسه يرى ما كان يراه وزيره، ووافقه على اقتراحاته تلك، ولكن عارضها الدوادار الصغير قائد القوة العسكرية التي تتكون من المماليك، فهدد الخليفة والوزير بأنه سوف يقوم بمصادرة كل شيء يرسلونه الى المغول، ففرض رأيه وارادته”.
الغامدي، ص ٣٤٥
وأخيرا أكد الغامدي: ” أن أغلب المراجع التي تقدح في الوزير ابن العلقمي بدافع طائفي وليس علمي ليس إلا ، كالجوزجاني في (الطبقات) وابو شامة في (التراجم) وابن الساعي في (المختصر) واليونيني في (ذيل مرآة الزمان) وابن شاكر الكتبي في (فوات الوفيات) والذهبي في (تاريخه) وغيره كثير كثر كل أولئك كتبوا هذه الاشاعة وزاد عليها كل مؤرخ ما يحلو له واعتمدها المؤرخ ابن العميد المسيحي في مصر الذي لم يشهد الواقعة بل نقلها في كتابه المخطوط أخبار الايوبيين ورقة 261
ويكتب الدكتور الغامدي فصلا خاصا عن:
دور العناصر المسلمة من خارج أراضي الدولة العباسية في اسقاط الخلافة في بغداد
فيقول: ان الذنب الكبير والخيانة العظمى كانت قد ارتكبتها عناصر إسلامية من خارج أراضي الدولة، فقد قام المسلمون من هاتيك الربوع بالمشاركة الفعالة مع المغول في حملته هذه، فارتكبوا مع المغول أعمالا شنيعة، وشاركوا في مذبحة مسلمي بغداد أنفسهم، كما شاركوا في جرائم المغول ضد إخوانهم المسلمين، من سكان العراق والجزيرة والشام… وان المسلمين حكاما وشعوبا افرادا وجماعات من أقاليم شرقنا الإسلامي عامة والتركستان وما وراء النهر خاصة قد لعبوا دورا بارزا وفعالا في بناء امبراطورية حنكيزخان وفي هجوم المغول المدمر ضد الأقطار الإسلامية الشرقية أراضي الدولة الخوارزمية.
وضمن تحليله لأسباب سقوط الدولة العباسية، يقول الدكتور سعد الغامدي: كانت الخلافة العباسية المتداعية في العراق تعاني من مصاعب شتى ومشاكل عديدة، كانت من الأسباب التي أدت الى ضعفها ثم نهايتها :
- الصراع الداخلي الدامي بين أعضاء مجتمعها الإسلامي لأسباب مذهبية مقيتة، ولا سيما بين السنة والشيعة
- الشلل الكامل الذي أصاب الجهاز الإداري بسبب النزاع والتخاصم بين كبار أعضاء بلاط الدولة العباسية.
- افتقار حكومة بغداد الى وجود جيش نظامي.
- كان من المستحيل على حكومة بغداد الهزيلة ان تقوى على الوقوف امام الغزو المغولي ولو ساعة من نهار، ولذلك فان مسألة سقوط الاسرة العباسية كان أمرا متوقعا.
- الحكومات في الأراضي الشامية والمصرية وشعوبها لم ينظروا على انه كان من واجبهم حمل السلاح والذهاب للقتال ضد الغزاة المغول، في سبيل الدفاع عن الخلافة العباسية أو عن خليفتها المستعصم، أو عن السكان العراقيين، بل كان المسلمون الذين جاؤوا في حملة هولاكو لتدمير هذه الدولة اكبر عددا من الذين دافعوا عنها، حيث كانوا يشكلون جزء كبيرا من الجيش المغولي الزاحف ضد الخليفة المستعصم
وسواء كان الوزير ابن العلقمي بريئا أو مذنبا، وعلى فرض خيانته للخليفة العباسي، فانه يتحمل وزره وحده، ولا يجوز الصاق تهمة الخيانة بطائفته على مدى التاريخ، وان التمادي في تعيير الشيعة بما حدث ويحدث في التاريخ يعبر أولا : عن الفشل في تحليل عوامل السقوط للدول، وثانيا: عن الحقد الطائفي، والرغبة في مواصلة التقاتل الداخلي. وثالثا: عدم التصميم والعزم على النهوض وتوحيد الأمة والتخطيط لبناء الحاضر والمستقبل.
لقد حدثت في التاريخ جرائم وهزائم وخيانات كثيرة من حكام ينتسبون الى أهل السنة، كالتحالف مع المستعمرين البريطانيين في الحرب العالمية الأولى ضد الخلافة العثمانية، من قبل ابن سعود والشريف حسين، والتواطؤ مع العدو الإسرائيلي في اعتداءاته اليومية على سوريا وفلسطين ولبنان والعراق واليمن، والاستسلام له والتطبيع السافر معه، فهل يجوز استخدام نفس منطق الطائفيين السنة، في تحميل مسؤولية تلك الجرائم والخيانات الى أهل السنة؟
ان الله تعالى يقول: (ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون).
ويقول: : ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾
ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾