يعتقد الفقهاء الشيعة الامامية الاثنا عشرية بأنهم امتداد للأئمة “المعصومين” الذين عينهم الله لقيادة الأمة الإسلامية والعالم، بعد الرسول الأكرم محمد (ص) وبالرغم من أنهم كانوا خلال ألف عام يحرمون إقامة الدولة أو القيام بأي نشاط سياسي في ما يسمى بعصر الغيبة الكبرى، التي اختفى فيها الامام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري منذ ولادته ووفاة أبيه عام ٢٦٠ للهجرة، ولكنهم منذ حوالي قرنين بدأوا تدريجيا بالحلول محل (الامام المعصوم الغائب) وذلك بتطوير نظرية أو فرضية (النيابة العامة عنه) الى درجة (ولاية الفقيه) أو (الحسبة) أي القيام بمسؤولية رعاية الأمور الاجتماعية العامة، وكان بعضهم يوسع دائرة الولاية الى (المطلقة) وبعضهم يضيقها الى ما هو أدنى من (الحكم والرئاسة).
وقد أصبح معروفا تبني الامام الخميني لنظرية ولاية الفقيه العامة والمطلقة، في الوقت الذي كان المرجع السيد أبو القاسم الخوئي يرفض ولاية الفقيه حتى في القضاء.
ولكن تلميذه السيد علي السيستاني الذي خلفه في المرجعية ، تبنى رأيا وسطا هو (الحسبة) أي الولاية المحدودة، ولكن القابلة للتمدد الى حدود أقرب للولاية العامة، وليس في بلد معين ، وانما في جميع أنحاء العالم.
وقد بحث السيد السيستاني موضوع ولاية الفقيه في عدد من كتبه أو دروسه التي سجلها تلامذته، كالسيد محمد علي الرباني في كتاب “الإجتهاد والتقليد والاحتياط”، والشيخ محمد كاظم الجشي في كتاب “الفوائد الفقهية” إضافة الى الإستفتاءات المنشورة في موقعه الرسمي.
وكما يقول الرباني في مقدمة كتاب (الاجتهاد والتقليد)، فان السيستاني ناقش في النجف في العام 1407 هـ (1986م) أدلة القائلين بنظرية ولاية الفقيه، كالامام الخميني الذي كان يحكم الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ذلك الحين، والتي يبنونها على بعض الأدلة الروائية والعقلية كمقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة ابو خديجة وروايات “الحوادث الواقعة” و “ورثة الأنبياء” و”أمناء الرسل” و”مجاري الأمور” وغيرها؛ فقام السيستاني بتضعيفها سنداً ودلالة. ورفض آراء الشيخ محمد حسن النجفي في “جواهر الكلام” والشيخ النراقي في “عوائد الأيام” وغيرهم بشأن ثبوت الزعامة العامة للفقيه وشمول صلاحياته على الحكم.
وناقش السيستاني رأي الإمام الخميني في كتاب البيع (المكاسب) بشأن حجية الدليل العقلي الذي يقول بضرورة استمرار تطبيق أحكام الإسلام التي تتعلق بالنظام العام ولا يمكن تعطليها؛ كالحدود والتعزيرات والأموال العامة والدفاع وغيرها، وهي بحاجة الى سلطة تقوم بتتنفيذها؛ واستعاض السيستاني عن ولاية الحكم بخيار توسيع دائرة ولاية الحسبة؛ لتكون بديلاً يستوعب جميع الشؤون العامة التي لا يجوز تركها.
نظرية الحسبة السيستانية
ذهب السيد السيستاني في كتاب “التقليد والإجتهاد والإحتياط” و “الفوائد الفقهية” وأجوبة الاستفتاءات، الى ثبوت الولاية للفقيه في ثلاثة مجالات، هي: الفتوى والقضاء والحسبة بصيغتها الواسعة.
وقال: ” الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء (رض) بالأمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد ، واما الولاية فيما هو اوسع منها من الامور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الاسلامي فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط اضافية ومنها ان يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين” .
ولم يشرح السيستاني نسبة المقبولية بين المؤمنين (أي الشيعة) وفي أي بلد؟ وفيما اذا كانت المقبولية العامة هي التي تمنح الفقيه المتولي الشرعية الدستورية، أو أنه يتمتع بشرعية دينية باعتباره نائبا عاما عن الامام المهدي؟ وان كان في فتاواه الأخرى يؤكد ايمانه بأن الفقيه “نائب الامام المهدي” وانه “الحاكم الشرعي”. (راجع مسألة رقم: ١١٦٣ و١١٦٥ و ١١٩٤ و ١٢٠٥و ١٢٠٦ و١٢٣٩ و ١٢٦٤ و١٢٦٥ و ١٢٦٦)
وقال في جواب سؤال 49: عن حدود ولاية الفقيه؟
-: “الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء (رض) بالأمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد، وأما الولاية فيما هو أوسع منها من الأمور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الاسلامي؛ فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط اضافية، ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين”.
الفوائد الفقهية، ج١ ص38 – 39.
وقال في الإجابة عن سؤال 93: ان ولاية الفقيه تعني نفوذ أحكامه شرعاً في موارد ثبوت الولاية له.
وأكد في جواب سؤال 43: بأن أوامر الفقيه التي تثبت له الولاية تنفذ على الجميع في الأمور الحسبية؛ بل وفي الأمور العامّة التي يتوقف عليها نظام المجتمع الإسلامي .
وفي جواب لسؤال 41: هل يجب اتّباع الفقيه في أحكامه التي يصدرها ؟ افتى قائلا:” إذا كان حكمه في موارد ثبوت الولاية فلا تجوز المخالفة”.
وباعتبار الفقيه الشيعي يقوم مقام الامام المعصوم المعين من قبل الله، بالنيابة العامة، افتى السيستاني بأن ولاية الفقيه تمتد الى كل مكان في العالم، وقال في جواب سؤال 90: هل الأحکام الولائية للولي الفقيه نافذة علی جميع مسلمي العالم أم هي خاصة بمنطقة نفوذه وولايته ؟ قال : “ولاية الفقيه فيمن تثبت له مواردها لا تتحدّد ببقعة جغرافية”.
وبينما كان يجادل بعض الفقهاء بأن كل فقيه هو نائب عام للامام المهدي، وبالتالي فان كل واحد يحتفظ بحقه في الولاية على نفسه، بصورة مستقلة، ذهب السيد السيستاني الى شمول ولاية الفقيه الحاكم على الجميع بمن فيهم الفقهاء، وقال في جواب السؤال 63: هل يجب على باقي الفقهاء الذين لا يرون ولاية الفقيه العامة؛ إطاعة الأحكام الولائية الصادرة عنه لضرورة حفظ النظام الإسلامي؟ وقال: “حكم الفقيه الذي ثبتت له الولاية في موارد ثبوتها؛ لا يجوز نقضه ولو لمجتهد آخر، إلّا إذا تبين خطؤه ومخالفته لما ثبت قطعاً في الكتاب والسنة”.
الفوائد الفقهية، ج ١ ص 45.
وكما يلاحظ فان السيستاني اقترب في (نظرية الحسبة) كثيرا من نظرية الخميني في ولاية الفقيه، الا انه لم يصرح بها في ظل حكم صدام حسين في العراق، وفي حضور استاذه الخوئي الرافض بصورة مطلقة لها.
وعلى أية حال لم يخرج السيستاني في بحثه لمسألة الحكم في الإسلام، عن اطار التراث الشيعي الامامي الاثني عشري وتطوراته الأخيرة باتجاه الحكم تحت ولاية الفقيه، في الوقت الذي كان ينبغي أن يبحث موضوع الحكم أو الدولة الدينية بصورة مستقلة وكيفية اقامتها على أساس ولاية الأمة على نفسها أو ولاية الفقيه عليها؟ واذا كانت الدولة مسألة لا مفر منها في أي وقت من الأوقات وفي أي مكان من الأمكنة فلماذا يجب أن تكون تحت قيادة الفقيه الشيعي؟
صحيح ان السيستاني كان يعيش في فترة القائه لدروسه حول الاجتهاد والتقليد في العراق في الثمانينات، ولكنه كان قريبا من الجارة الشيعية (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) التي قامت على أساس الدستور وارتكاز السلطة على الجماهير، وحقها في انتخاب مجلس نواب ورئيس للجمهورية.
فلماذا كان السيستاني يتردد في بحث الموضوع ويتشبث بنظرية (الحسبة) التي كان الزمن الشيعي قد تجاوزها بكثير في ذلك الوقت؟
ولكننا سنتفاجأ بعد حوالي عقدين من الزمن برأي جديد ومتقدم جدا للسيد السيستاني حول مسألة الحكم، وذلك بعد سقوط نظام صدام حسين، عام ٢٠٠٣، ودعوة الاحتلال الأميركي الى إقامة نظام ديمقراطي في العراق، حيث تبنى السيستاني هذه الاطروحة، متقدما بها عن تجربة ولاية الفقيه في ايران، ولاغيا منها دور (المرشد الولي الفقيه) في الجمهورية العراقية.
وبالرغم من هذا التقدم الواقعي والعملي باتجاه النظام المدني الديمقراطي الذي رعاه السيد السيستاني، وتأييده للاستفتاء على الدستور العراقي عام ٢٠٠٥ واشرافه على القائمة الشيعية في الانتخابات، الا انه لم يبين بوضوح موقفه الأخير من نظرية ولاية الفقيه، أو الحسبة الواسعة، التي كان يقول بها سابقا، هل تخلى عنها تماما لصالح النظام الديمقراطي؟ أم لا يزال يؤمن بها ويعتبر نفسه “نائبا عاما عن الامام المهدي وحاكما شرعيا على العالم”؟
ان الإجابة عن هذا السؤال مهمة جدا لتعزيز النظام الديمقراطي، والفصل بينه وبين “المرجعية الدينية” ودورها السياسي في العراق والعالم الشيعي.
واذا لم تتح الفرصة للسيد السيستاني الإجابة على هذا السؤال فان المواطنين العراقيين (الشيعة وغيرهم) الذين انخرطوا في العملية السياسية، ينتظرون الإجابة عليها من أي مرجع شيعي قادم، من أجل تحديد موقفهم من المرجعية والنظام الديمقراطي.
وان كان الجواب في الحقيقة لا يعتمد على رأي السيستاني أو غيره من الفقهاء، بقدر ما يعتمد على رأي الناس في النظام الديمقراطي، والمرجعية الدينية التي تدعي الولاية على الناس ولا تقدم أية أدلة شرعية إسلامية عليها سوى فرضية النيابة العامة للفقهاء عن الامام الثاني عشر الغائب (محمد بن الحسن العسكري) .
وفي الوقت الذي لا يزال التداخل بين الديني والمدني قويا في الثقافة الشعبية الشيعية، في ما يخص النظام السياسي، فانه يوجد تداخل آخر في تلك الثقافة بين القطري والعالمي، وهو ناتج عن الرؤية الدينية العالمية لدور الفقيه الشيعي (نائب الامام المهدي). ويتجلى هذا التداخل بقوة في العلاقة بين العراق وايران، حيث يرتبط بعض العراقيين الشيعة بالولي الفقيه الإيراني، كما يرتبط بعض الشيعة الإيرانيين بالفقيه العراقي (السيستاني). وهذه مشكلة لم يحلها الفقهاء الإيرانيون ولا العراقيون، وقد رأينا السيستاني يفتي في المسألة 90: بأن ولاية الفقيه نافذة علی جميع مسلمي العالم ولا تختص بمنطقة نفوذه وولايته وأنها لا تتحدد ببقعة جغرافية. ولكنه لم يلتزم بهذه الفتوى، ولم يتبع الولي الفقيه الحاكم في ايران، بل استقل عنه في العراق، وأقام ولاية خاصة به، وان لم يمدها سياسيا الى ايران، أو الى سائر البلدان.
وفي نظري لا يمكن حل هذه المشكلة في ظل النظرية السياسية “الدينية” أي : ولاية الفقيه، واعتبار كل فقيه بأنه حاكم شرعي على العالم باعتباره “نائبا عاما عن الامام المهدي”. وان حلها يكمن في تعزيز الثقافة الديمقراطية والاعتقاد بأن شرعية الحاكم تنبع من الجماهير التي تنتخبه في هذا البلد أو ذاك، وان صلاحيته تحدد في البقعة الجغرافية التي تنتخبه وفق الدستور. والايمان بعدم تمتع أي فقيه بأية شرعية “دينية” وهمية لا في داخل البلاد ولا في خارجها.