المفيد مؤسس المذهب البويهي.

الاثنى عشرية

دور الشيخ المفيد في الفتنة الطائفية

ما أن كانت الفتنة الطائفية تخمد بعض السنين حتى تتفجر في سنين أخرى، حيث يروي ابن كثير في حوادث سنة ٣٦١ أنه “وقعت فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ، وقالوا: الشر كله منكم، وثار العيارون ببغداد يأخذون أموال الناس”.

ويضيف ابن كثير: “قام الوزير أبو الفضل الشيرازي، سنة ٣٦٢ وكان شديد التعصب للسنة، بمهاجمة أهل الكرخ الشيعة، وأمر بإلقاء النار في دورهم، فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال، من ذلك ثلاثمائة دكان ، وثلاثون مسجدا، وسبعة عشر ألف انسان”.

وأما ابن الجوزي، فيصف تلك الواقعة بقوله: “بعث أبو الفضل الشيرازي، وكان قد أقامه معز الدولة مقام الوزير، في طرح النار من النخاسين الى السماكين، فاحترقت أموال عظيمة، وجماعة من الرجال والنساء والصبيان في الدور والحمامات، فاحصي ما احترق فكان سبعة عشر ألف وثلثمائة دكان، وثلاثمائة وعشرين دارا”.

وفي الوقت الذي كان السنة والشيعة يقتتلون في بغداد “اجتاح الروم بلاد الإسلام، ودخلوا نصيبين واستباحوا وقتلوا كثيرا من رجالها وسبوا من نسائها وصبيانها.. وورد الى بغداد خلق كثير من أهل تلك البلاد، فاستقروا في الجوامع وكسروا المنابر ومنعوا الخطبة، وحاولوا الهجوم على دار المطيع لله… و نسبوه الى العجز عن ما أوجبه الله على الأئمة، وأفحشوا القول”.

ولكن تلك الكارثة لم تمنع المتعصبين من الطائفتين من مواصلة اقتتالهم في الأعوام التالية، حيث قام بعض أهل السنة (أي الحنابلة) سنة ٣٦٣ بابتداع “يوم الجمل” ردا “عيد الغدير” كما يقول ابن كثير: “فيها عملت البدعة على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافضة، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بعيد عن السداد، وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير وعاث العيارون في البلد فسادا، ونهبت الأموال، ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا فسكنت الفتنة”.

ومع انتقال الخلافة العباسية من المطيع الى الطائع في ذلك العام (٣٦٣) تمرد الجنود الأتراك بقيادة سبكتكين، على الحكام البويهيين، فانعكس ذلك على الصراع بين السنة والشيعة، وكما يقول ابن الجوزي: “ثارت العامة تنصر سبكتكين… ثم ان الناس صاروا حزبين فأهل التشيع ينادون بشعار عز الدولة والديلم، وأهل السنة ينادون بشعار سبكتكين والأتراك، واتصلت الحروب وسفكت الدماء وكبست المنازل وأحرق الكرخ حريقا ثانيا”.

وفي هذه الأثناء حدث صراع داخلي بين البويهيين فقتل “عضد الدولة” ابن عمه “عز الدولة بختيار” وسيطر على بغداد “وقد هلك أهلها قتلا وحرقا وجوعا للفتن التي اتصلت فيها بين الشيعة والسنة، فقال: آفة هؤلاء القصاص يغرون بعضهم ببعض ويحرضونهم على سفك دمائهم، وأخذ أموالهم، فنادى في البلد لا يقص أحد في جامع ولا طريق، ولا يتوسل متوسل بأحد من أصحاب رسول الله، ومن أحب التوسل قرأ القرآن، فمن خالف فقد أباح دمه”.

وشهد العراق خلال حكم عضد الدولة، هدوء استمر حوالي عشرة أعوام حتى وفاته سنة ٢٧٢ وربما استمر الهدوء حتى سنة ٣٨٠ حيث اضطرب الأمن في بغداد، وتفجرت الفتنة الطائفية مرة أخرى “ووقعت بينهم حروب وعظمت الفتنة، واتصل القتال بين الكرخ (الشيعية) وباب البصرة (السنية)، وصار في كل حرب أمير وفي كل محلة متقدم وقتل الناس، واخذت الأموال، واحرق بعضهم محال بعض”.

وفي سنة ٣٨١ حدث تطور سياسي مهم، وذلك عندما قام الحاكم البويهي “بهاء الدولة” بعزل الخليفة “الطائع” وتعيين “القادر بالله” مكانه، وبالرغم من تبادل اليمين بين الطرفين بالاخلاص والوفاء والصدق والطاعة، والاشهاد على ذلك أمام الاشراف والقضاة والشهود، إلا أن الأمور لم تجر بسلاسة، وانما شابها كثير من الصراع الخفي بين الخليفة العباسي والحكام البويهيين. وكان تبوء الخليفة القادر للسلطة الرمزية والروحية والفكرية لأهل السنة، بداية العمل من أجل الانقضاض على الحكم البويهي، حيث قام بتعزيز وتوحيد المذاهب السنية (الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف) في طائفة سنية واحدة، ودعم ملوك الأطراف، وأعلن “البيان القادري” في مواجهة الشيعة والمعتزلة والزيدية والأشاعرة، وعبأ أهل السنة ضد الشيعة والبويهيين، ولم تمض شهور على توليه الخلافة حتى تصدى أهل السنة في (باب البصرة) في بغداد لاحتفالات الشيعة بيوم الغدير. ” ومنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح في عاشوراء” في محرم سنة ٣٨٢.

وفي سنة ٣٨٦ ادعى أهل البصرة في شهر المحرم انهم كشفوا عن قبر عتيق فوجدوا فيه ميتا طريا بثيابه وسيفه، وقالوا انه الزبير بن العوام، فأخرجوه وكفنوه ودفنوه بالمربد، وبنوا عليه وجعلوا الموضع مسجدا.
ثم قام أهل السنة عام ٣٨٩ بالاحتفال “بيوم الغار” في مقابل احتفال الشيعة “بعيد الغدير” كما يقول ابن العماد الحنبلي: “تمادت الرافضة في هذه الأعصر في غيهم، بعمل عاشوراء، باللطم والعويل، ونصب القباب والزينة وشعار الأعياد يوم الغدير، فعمدت غالبية السنة، وأحدثوا في مقابله يوم الغار، وجعلوه بعد ثمانية أيام من يوم الغدير، وهو السادس والعشرين من ذي الحجة، وزعموا أن النبي وأبا بكر اختفيا حينئذ في الغار… وجعلوا بإزاء عاشوراء يوم مصرع مصعب بن الزبير، وزاروا قبره يومئذ بمسكن، وبكوا عليه، ونظروه بالحسين، لكونه صبر وقاتل حتى قتل، ولأن أباه ابن عم النبي”.

وعلى اثر تفجر الفتن الطائفية سنة ٣٩٢ حاول الحاكم البويهي بهاء الدولة منع مواكب العزاء الشيعية، ومنع السنة والشيعة من اظهار أي مذهب، ونفى بعد ذلك الشيخ المفيد ابن المعلم فقيه الشيعة عن البلد.

وذكر ابن الجوزي في “المنتظم” وقوع فتنة طائفية سنة ٣٩٨ وذلك عندما أحضرت الشيعة مصحفا ذكروا أنه مصحف عبد الله بن مسعود، وهو يختلف عن المصحف العثماني بعض الشئ، فجمع الخليفة القادر الاشراف والقضاة والفقهاء في يوم جمعة لليلة بقيت من رجب، وعرض المصحف عليهم فأشار الشيخ أبو حامد الأسفراييني والفقهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، فغضب الشيعة من ذلك غضبا شديدا، وجعلوا يدعون ليلة النصف من شعبان على من فعل ذلك ويسبونه، وقام بعض الهاشميين (العباسيين) بالتهجم على الشيخ المفيد، في مسجده بدرب رباح، فثار أصحابه له واستنفر أصحاب الكرخ وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الأسفراييني، وصاحوا: “يا حاكم يا منصور!” (استنجادا بالخليفة الفاطمي)، وبلغ ذلك الخليفة فغضب وبعث أعوانه لنصرة أهل السنة، فحرقت دور كثيرة من دور الشيعة، وجرت خطوب شديدة، وقدم عميد الجيوش إلى بغداد لينفي عنها ابن المعلم (الشيخ المفيد)، فأخرج منها ثم شفع فيه علي بن مزيد، فأعيد الى محله.

كما قام بهاء الدولة بنفي الشيخ المفيد مرة أخرى مع جماعة من الوعاظ وأهل السنة، في أعقاب تفجر الفتنة الطائفية في بغداد عام ٤٠٩

دور الشيخ المفيد في الفتنة الطائفية

إذن فقد ولد الشيخ المفيد في خضم الفتنة الطائفية التي عصفت بالشيعة الإثني عشرية في العراق في القرن الرابع الهجري، وبدلا من أن يقوم بدراسة تلك الفتنة المؤسفة التي كانت تستنزف طاقات المسلمين، ويحلل جذورها، ويقدم العلاج لتوحيد المسلمين، فانه انغمس في الفتنة، وراح يصب النار عليها ويعززها بكتاباته، وكان كل همه هو نقض نظرية الشورى، ودعم نظرية الإمامة الإلهية لأهل البيت الذين لم يكن لهم وجود في القرن الرابع الهجري، ولا إمكانية لتطبيق تلك النظرية المثالية الخيالية الوهمية العقيمة، وكذلك انتقاد الصحابة والخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل، ولعنهم وتكفيرهم وتفسيقهم والتشكيك في صدق إيمانهم، وتشويه صورتهم، والصاق التهم الكاذبة بهم، والتباهي بذلك.

فقد اتهم المفيد الصحابي الجليل أبا بكر الصديق بأنه كان كافرا، ولم يكن مؤمنا، وان أبا بكر وعمر كانا منافقين. واطلق عليهما وصف “الجبت والطاغوت”.
وألف كتابا في الرد على أهل السنة الذين بدأوا يحتفلون بيوم الغار الذي أوى اليه رسول الله (ص) مع صاحبه أبي بكر، أثناء الهجرة من مكة الى المدينة، وحاول أن ينفي عنه شرف الصحبة، ونفى نزول السكينة عليه في الغار، كما جاء في الآية الكريمة: “إلا تنصروه، فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم”. (التوبة،٤٠) وقد أول المفيد “فأنزل سكينته عليه” بأنها نزلت على النبي فقط، ولم تنزل على أبي بكر. مع أن نزول السكينة على النبي تستتبع نزول السكينة على صاحبه، وذلك بالرغم من وجود قولين في عودة الضمير (عليه) على النبي وعلى أبي بكر، حسبما ينقل عن ابن عباس “بأن الله أنزل سكينته على أبي بكر فان النبي (ص) كانت عليه السكينة من قبل”.

واتهم المفيد الشيخين أبا بكر وعمر بأنهما تآمرا على النبي وخططا لعزل أهل البيت عن الخلافة. ودعا الى البراءة من الشيوخ الثلاثة الذين ظلموا الامام علي واغتصبوا حقه في الخلافة، ولعنهم ولعن أتباعهم وأشياعهم. وشكك بنزاهة السيدة عائشة أم المؤمنين بتحويل آية الإفك النازلة بحقها الى الجارية مارية القبطية، التي ادعى أن عائشة اتهمتها بالزنا.

وغني عن القول أن الشيخ المفيد اتبع في رواية التاريخ، وأحاديث الإمامة، على إشاعات وأخبار آحاد، وأساطير لم يتحقق منها، ولم يتوقف ليدرس سندها، أو يقارن بينها وبين الأخبار الصحيحة المتواترة، وقد بينا ذلك في الفصول الماضية. ولكنه نجح في نقل ذلك التراث الأسطوري المشحون بالعنف والكراهية، الى الأجيال التالية المقلدة من الشيعة، الذين صدقوا روايته واعتبروها مؤكدة، وبالتالي استطاع أن ينقل شعلة الفتنة الطائفية الى اليوم، مع الأسف الشديد.

Ali

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *