يحاول المسلمون الشيعة منذ عقود الخروج من القمقم الطائفي والتوحد مع إخوانهم المسلمين من بقية الطوائف، ولهم مساع كثيرة وعديدة في الدعوة للتقريب والوحدة الإسلامية، ولا يكتفون بمساعدة إخوانهم المظلومين والمحرومين والمستعمرين كالفلسطينيين والبوسنيين، وغيرهم ، ودعمهم من أجل التحرر من نير الاستعمار والاستبداد، وانما عملوا ويعملون من أجل تجاوز عقبة الخلاف الرئيسي في التاريخ، وهو الخلاف حول الامامة، أي بمعنى نظام الحكم، وذلك بالاتفاق معهم على نظام سياسي واحد جديد، كالنظام الديمقراطي العادل (كما حدث في العراق) وإعلان المساواة معهم، ورفض أي تمييز بين الشيعة وغيرهم.
وتعاون بعض الشيعة كحزب الدعوة الإسلامي مع إخوانهم في حزب التحرير وجماعة الاخوان المسلمين، حتى اتهموا من قبل البعض بالتحول الى “سنة”!
وبالرغم من كل ذلك فان دعوة الشيعة للتقريب أو الوحدة الإسلامية، واجهت وتواجه عقبتين داخلية وخارجية، وتتمثل العقبة الخارجية بالتشكيك في صدق نواياهم، واتهامهم باستغلال دعوة التقريب من أجل تشييع أهل السنة، وأما العقبة الداخلية فتتمثل في الحقيقة في التراث الطائفي الامامي المروي في كتب الصحاح الشيعية عن أئمة أهل البيت ولا سيما الباقر والصادق، والذي يعرف الايمان بالاعتقاد بولاية أهل البيت، وعدم الاعتراف باسلام من لا يؤمن بالولاية، الا ظاهرا، والتعامل معه في الدنيا كمسلم، وعدم قبول الله لعمله، والقائه في النار في الآخرة مع الكفار. وانعكاس هذا التعريف أو هذه العقيدة على كثير من الأمور مثل التولي والتبري، ورفض رئاسة غير الشيعي الامامي الاثني عشري في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو الصلاة جماعة خلف السنة (باستثناء فتوى الخميني بالصلاة خلف أئمة الجمعة والجماعة في الحرم المكي) وعدم جواز إعطاء الزكاة لأهل الخلاف (أهل السنة وباقي الفرق الشيعية من غير الاثني عشرية) الا باعتبارهم من (المؤلفة قلوبهم) وجواز غيبة “المخالف” وما الى ذلك.
وبالرغم من تأويل بعض الفقهاء لتلك الأحاديث الواردة عن الأئمة بشأن الولاية، والتخفيف من وقعها وآثارها في العلاقة مع الآخرين، فان المشكلة الرئيسية التي تحول دون التخلص من تلك الأحاديث، هو الاعتقاد بصحة تلك الروايات سندا، لوثاقة رواتها، في أصح المجامع الحديثية الشيعية الامامية، وعدم إمكانية التحرر منها تماما ومائة بالمائة.
ولذلك فقد التزم فقهاء الامامية الاثني عشرية، بتلك الأحاديث، وأفتوا على ضوئها، منذ أكثر من ألف عام، ولم يستطع أي فقيه شيعي امامي الإفتاء خلافها، حتى لو اقتنع أو اضطر للايمان بضرورة الوحدة الإسلامية.
الولاء لأهل البيت ركن من أركان الإسلام
وذلك لأن الثقافة الطائفية الموروثة من القرن الثاني الهجري، عند تأسيس النظرية الامامية الإلهية في عهد الامامين الباقر والصادق، تعظم من موضوع الامامة وتقرنها بالتوحيد والنبوة. وتشبه طاعة الأئمة بطاعة الله ، ومعصيتهم بمعصية إبليس لله ، وينقل الكليني في كتابه (الكافي) حديثا عن الامام الباقر يقول فيه:” إن الله افترض على أمة محمد (ص) خمس فرائض: الصلاة والزكاة والصيام الحج وولايتنا، فرخص لهم في أشياء من الفرائض الأربعة ولم يرخص لأحد من المسلمين في ترك ولايتنا لا والله ما فيها رخصة”. ويعتبر تولي غير “الأئمة” نوعا من الإلحاد في الدين.
وكما يروي الحر العاملي في (وسائل الشيعة (34947) 44 – عن أبي جعفر الباقر قوله: “إن الله عز وجل نصب عليا (ع) علما بينه وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن جهله كان ضالا، ومن نصب معه شيئا كان مشركا، ومن جاء بولايته دخل الجنة”.
وينقل العاملي أيضا نفس الحديث عن الامام جعفر الصادق:”إن الله جعل عليا (ع) علما بينه وبين خلقه، ليس بينه وبينهم علم غيره، فمن تبعه كان مؤمنا، ومن جحده كان كافرا، ومن شك فيه كان مشركا.” ((34916) 13 –
و أدى رفع أمر “الإمامة” إلى مستوى العقيدة والعبادات الضرورية في الإسلام، إلى اعتبار “الولاء” للأئمة الحسينيين، شرطا للهدى والتقوى والإخلاص، واتهام من لا يؤمن بولايتهم بالضلال والشرك ، ورسم صورة سلبية “لأعداء” أئمة أهل البيت وشيعتهم، وخصومهم.
حيث تعود الأحاديث التي يرويها الامامية عن الباقر والصادق، الى الوراء لتشكك بإيمان الخلفاء الراشدين الذين تبوأوا الخلافة بعد رسول الله (ص) لتتهمهم بالكفر والشرك أيضا، كما ينقل العاملي عنهما:”من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر”. ((34918) 15 – .
وعن أبي عبد الله :” ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: من ادعى إماما ليست إمامته من الله، ومن جحد إماما إمامته من عند الله، ومن زعم أن لهما في الاسلام نصيبا”. ((34911) 8 –
ونسب الإماميون إلى الصادق حديثا يعرِّف الإسلام والإيمان، والفرق بينهما، يقول فيه:” الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان فهذا الإسلام، والإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا فان أقرَّ بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلما وكان ضالا”.
وأنه قال أيضا: “منا الإمام المفروض طاعته، من جحده مات يهوديا أو نصرانيا”. ((34914) 11 –
وروى الإمامية عن الباقر والصادق روايات عديدة عن النبي الأكرم باعتبار من يحب عليا ويعرفه ويطيعه ويدخل بابه: مؤمنا، ومن يرفضه أو يجهله أو يحاربه: كافرا. ونسبوا إلى الصادق اعتباره كل من نصب شيئا (أو شخصا) دون أهل البيت فهو ممن يعبد الله على حرف. وأنه قال:” أُمِرَ الناس بمعرفتنا والرد إلينا والتسليم لنا. وإن صاموا وصلوا وشهدوا أن لا إله إلا الله وجعلوا في أنفسهم أن لا يردوا إلينا كانوا بذلك مشركين”.
وانطلاقا من اعتبار الولاء لأهل البيت إيمانا، ومخالفتهم كفرا، فقد اتخذ الفكر “الإمامي” موقفا سلبيا من الصحابة الذين لم يتبعوا عليا بعد وفاة رسول الله (ص) مباشرة، ونقل الكليني عن أبي جعفر أنه قال:” ذهب المهاجرون والأنصار إلا ثلاثة”. أو “كان الناس أهل ردة بعد النبي (ص) إلا ثلاثة .. المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري و سلمان الفارسي رحمة الله وبركاته عليهم ثم عرف أناس بعد يسير. هؤلاء الذين دارت عليهم الرحى وأبوا أن يبايعوا حتى جاءوا بأمير المؤمنين مكرها فبايع”. وروى الكليني عن أبي عبد الله أنه قال:” من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر”. وأنه قال: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماما من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيبا”. وأنه اعتبر من ينكر أحد الأئمة كمن أنكر معرفة الله (تبارك وتعالى) ومعرفة رسول الله (ص).
ومن هنا اعتبر الإماميون عدم بيعة الصحابة للإمام علي مباشرة بعد النبي (ص) نوعا من الردة.
وروى الإمامية عن الباقر أنه قال:” كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير والله شانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها… ومن أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله عز وجل ظاهرا عادلا أصبح ضالا تائها وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق، وإن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، قد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد”.
كما رووا عن الباقر أنه قال: ” من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله أصبح تائها متحيرا ضالا، إن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق”. ((34940) 37 – ) وعن أبي عبد الله : ” من عرفنا كان مؤمنا، ومن أنكرنا كان كافرا، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا”. ((34946) 43 –
وروى الامامية عن الصادق أنه قال :” إن الله لا يستحيي أن يعذب أمة دانت بإمام ليس من الله وإن كانت في أعمالها برة تقية، وإن الله ليستحيي أن يعذب أمة دانت بإمام من الله وإن كانت في أعمالها ظالمة مسيئة”. ونقل الكليني عنه أنه قال: ” لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله، ألا تسمع لقول الله عز وجل: ” الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور” يعني من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل من الله، وقال: ” والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ” إنما عنى بهذا أنهم كانوا على نور الإسلام فلما أن تولوا كل إمام جائر ليس من الله عز وجل خرجوا بولايتهم إياه من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب الله لهم النار من الكفار، فـ ” أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون “.
وأكد أبو عبد الله الحديث المنسوب للنبي الأكرم (ص):” من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية؟” فقال: انها :”جاهلية كفر ونفاق وضلال”.
وروى المفضل بن عمر (وهو من الغلاة المفوضة) عن أبي عبدالله (الصادق) أنه قال :” من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله – البتة – إلى العناء ، ومن ادعى سماعا من غير الباب الذي فتحه الله فهو مشرك، وذلك الباب المأمون على سر الله المكنون”.
ولم يقتصر الموقف السلبي ممن لا يوالي الأئمة من أهل البيت، عند الباقر والصادق، بل امتد الى الشيعة الامامية (الواقفية) الذين وقفوا على الامام موسى بن جعفر، ولم يعترفوا بامامة ابنه علي الرضا، حيث ينقل لنا التراث الامامي أن
أحد (القطعية، أي الذين آمنوا بالرضا) كتب إلى أبي محمد (ع) يسأله عمن وقف على أبي الحسن موسى ، فكتب: “لا تترحم على عمك وتبرأ منه أنا إلى الله منه برئ، فلا تتولهم، ولا تعد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، من جحد إماما من الله أو زاد إماما ليست إمامته من الله كان كمن قال: ” إن الله ثالث ثلاثة ” إن الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا”.
وعندما تشتت الشيعة الامامية في القرن الثالث الى فرق عديدة، راح يكفر بعضهم بعضا، واختلق (الاثنا عشرية) الذين افترضوا وجود ولد مستور للامام الحسن العسكري، عام ٢٦٠ للهجرة، أحاديث على لسان الامام الصادق عن آبائه عن رسول الله (ص) أنه قال: ” الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم – إلى أن قال: – المقر بهم مؤمن، والمنكر لهم كافر”. ((34930) 27 – )
وذلك بالرغم من الغموض والحيرة التي عمت شيعة الحسن العسكري، وفرقتهم الى اربع عشرة فرقة، وعدم وجود أي دليل تاريخي على ولادة ابن الحسن المفترض، بل نفي العسكري نفسه وأهل بيته، لوجود ولد لديه، وعدم رؤية ذلك الولد المفترض منذ ذلك الحين. ولكن (الاثني عشرية) ساروا على درب سلفهم في استخدام الاعلام الإرهابي وتكفير من لا يؤمن بعقيدتهم القائمة على سراب، وادعاء حصر (الإيمان) بمن يصدقهم فيما يدعون.
المقاطعة النفسية والفكرية والسياسية: التكفير واللعن
وقد أدى تكفير أئمة المخالفين، وأتباعهم، ولعنهم والحكم بضلالهم، إلى موقف سلبي آخر، هو الفصل الاجتماعي والسياسي بين الشيعة “الإمامية” وغيرهم من المسلمين المخالفين، حيث قام “الإمامية” برواية رسالة خاصة زعموا أن الصادق وجهها للشيعة وقال فيها:”أحبوا في الله من وصف صفتكم وأبغضوا في الله من خالفكم وابذلوا مودتكم ونصيحتكم لمن وصف صفتكم ولا تبتذلوها لمن رغب عن صفتكم وعاداكم عليها وبغى لكم الغوائل”.
وكانت نظرية “الإمامة الإلهية لأهل البيت” قد أحدثت تطورا كبيرا في بنية (الامامية) حولهم من حزب سياسي سابق يلتف حول أئمة أهل البيت في أيام الإمام علي والحسن والحسين، ويعمل من أجل الإصلاح في الأمة الإسلامية ونشر الحق والعدالة لعموم المسلمين، إلى طائفة منغلقة على نفسها، ومنفصلة عن بقية المسلمين.
وإذا كانت مقاطعة الظالمين مفهومة ومعروفة عن أئمة أهل البيت ، فإن (الإمامية) رووا عنهم روايات أخرى تأمر بمقاطعة المخالفين اجتماعيا، ونقلوا عن أبي عبد الله أنه حذر من مجالسة أهل المعاصي والبدع، فقال:” لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله (ص): المرء على دين خليله وقرينه”. وأنه روى عن رسول الله (ص) أنه قال:” : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة”.
وروى الكليني أحاديث تأمر بمقاطعة المخالفين، وقال في رواية: إن قوما من أهل خراسان من وراء النهر أتوا أبا عبد الله فقال لهم: “تصافحون أهل بلادكم وتناكحونهم؟ أما إنكم إذا صافحتموهم انقطعت عروة من عرى الإسلام وإذا ناكحتموهم انهتك الحجاب بينكم وبين الله عز وجل”.
وروى الكليني عن الصادق أنه قال: “لا يتزوج المؤمن الناصبة المعروفة بذلك”. وقال:” لا يزوج المؤمن الناصبة ولا يتزوج الناصب المؤمنة ولا يتزوج المستضعف مؤمنه”.
وعن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله: إن لامرأتي أختا عارفة على رأينا وليس على رأينا بالبصرة إلا قليل فأزوجها ممن لا يرى رأيها؟ قال: لا ولا نعمة ولا كرامة.. إن الله عز وجل يقول: “فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن “.
ونتيجة لقرار الإمامية مقاطعة المخالفين اجتماعيا فقد قاموا بمقاطعتهم في الصلوات والعبادات، وتحريم صلاة الجماعة خلفهم الا للتقية.
وامتدت المقاطعة الاجتماعية من الحياة إلى الوفاة، فنقل الإمامية عن الصادق أنه رفض الصلاة على جنائز المخالفين، وإذا ما اضطر أحد إلى الصلاة عليهم فان عليه أن يلعنهم بدل الترحم عليهم. ورووا عنه أنه قال: إذا صليت على عدو الله فقل: ” اللهم إن فلانا لا نعلم منه إلا أنه عدو لك ولرسولك، اللهم فاحشِ قبره ناراً واحشِ جوفه ناراً وعجل به إلى النار فإنه كان يتولى أعداءك ويعادي أولياءك ويبغض أهل بيت نبيك، اللهم ضيق عليه قبره ” فإذا رُفع فقل: ” اللهم لا ترفعه ولا تزكه”.
المقاطعة الاقتصادية
وإلى جانب المقاطعة السياسية والثقافية والاجتماعية، نقل الإمامية أحاديث عن أئمة المذهب بوجوب مقاطعة الشيعة لمخالفيهم اقتصاديا، وخصوصا في موضوع الزكاة. وقد نقلنا تلك الروايات في فصل الفقه الإمامي. وقد زعموا بتحريم “الأئمة” لدفع الزكاة للفقراء المخالفين. ونقل الزكاة من بلد إلى آخر، إن لم يوجد “عارف” في البلد الأول. ووجوب إعادة إخراج الزكاة مرة ثانية إن تم وضعها في غير موضعها.
وقد تميز الفقه “الإمامي” في باب الزكاة ، حيث قال بتحريم دفع الزكاة إلى الفقراء المخالفين، واشتراط الولاء للأئمة الحسنيين، بالنسبة لتوزيع الزكاة على الفقراء، حيث نسب إلى الباقر التوصية بوضع الزكاة في أهل الولاية فقط، أونقلها من بلد إلى آخر، إن لم يوجد “عارف” في البلد الأول. ونقل زرارة عن الصادق النهي عن إعطاء الزكاة إلا لمن يعرف. حتى لقرابة الرجل المحتاجين “غير العارفين”. وأنه قال لأبي بصير: “لا ولا كرامة”. ونسب الإمامية إلى علي بن موسى الرضا قوله:”لا توضع الزكاة فيمن لا يعرف، ولا زكاة الفطرة”.
وبلغ التشدد في هذا القرار حد الحكم بإعادة إخراج الزكاة مرة ثانية إن تم وضعها في غير موضعها. وكذلك الحكم بإعادة إخراجها، على كل “ناصبي” يتحول إلى التشيع.
وبناء على كل هذه الأحاديث أفتى كثير من مراجع الشيعة الامامية الاثني عشرية عبر التاريخ بكفر (المخالفين) وذهب بعض الأخباريين كالشيخ يوسف البحراني في (الحدائق الناضرة) الى نجاستهم. ولكن الفقهاء المعاصرين كالخوئي والخميني، حاولوا التخفيف من لهجة التكفير الواردة في الأحاديث، وتأويله بالكفر المجازي المقابل للايمان وليس المقابل للاسلام، أو اعتبار غير المؤمنين بنظرية الامامة مسلمين في الظاهر في الدنيا وكفارا في الآخرة.
وقال المرجع الراحل أبو القاسم الخوئي: “ان أصول الإسلام أربعة: الايمان بالله… والاقرار بتوحيده تعالى، ويقابله الشرك… والايمان بنبوة محمد (ص) … والايمان بالمعاد الجسماني، والاقرار بيوم القيامة والحشر والنشر… ومن هنا لا يحكم بكفر المخالفين في الظاهر مع انكارهم الولاية. وقد دلت الآيات وروايات الفريقين على اعتبار الأمور المذكورة في الإسلام وحقن الدماء، وحفظ الأموال، ففي موثقة سماعة: الإسلام شهادة أن لا اله الا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس. وفي رواية داود بن كثير الرقي: ان الله تعالى فرض موجبات على العباد فمن ترك فريضة من الموجبات وجحدها كان كافرا. ومن طريق العامة عن رسول الله: أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فاذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم”.
مصباح الفقاهة ج١ ص ٢٤٦-٢٤٧
وقال: ” قد اعتبر في الشريعة المقدسة أمور على وجه الموضوعية في تحقق الإسلام … وأما المخالف فليس بكافر قطعا… لاقرارهم بالشهادتين ظاهرا وباطنا”.
مصباح الفقاهة ج٥ ص ٩٤
وصرح الامام الخميني: بأن الإسلام يتحقق بالاقرار بالشهادتين فقط، دون أي شيء آخر فلا تدخل الولاية في ذلك فقال:” ان المسلم بحسب ارتكاز المتشرعة هو المعتقد بالله تعالى ووحدانيته، ورسالة رسول الله (ص) … وأما الاعتقاد بالولاية فلا شبهة في عدم اعتباره فيه، وينبغي ان يعد ذلك من الواضحات لدى كافة الطائفة الحقة ان اريد بالكفر المقابل له ما يطلق على مثل أهل الذمة من نجاستهم وحرمة ذبيحتهم ومشاورتهم وتزويجهم، ضرورة استمرار السيرة من صدر الإسلام الى زماننا على عشرتهم ومؤاكلتهم ومساورتهم وأكل ذبائحهم والصلاة في جلودها، وترتيب آثار سوق المسلمين على أسواقهم من غير أن يكون ذلك لأجل التقية، وذلك واضح لا يحتاج الى مزيد تجشم”.
الخميني، كتاب الطهارة، ج٣ ص ٣١٥-٣١٦
وقال أيضا:”ان الإسلام ليس الا الشهادة بأن لا الله وأن محمدا رسول الله (ص)”. المكاسب المحرمة ج١ ص ٢٤٩
وأضاف: “ان ما أخذ في مهية الإسلام ليس الا الشهادة بالوحدانية والرسالة والاعتقاد بالمعاد … فالامامة من أصول المذهب لا الدين”.
كتاب الطهارة ج٣ ص ٣٢٢ – ٣٢٣
وقال الخميني مثبتا طهارة المخالفين واسلامهم:” مع قيام الأدلة على طهارتهم من النصوص المتفرقة في أبواب الصيد والذباحة وسوق المسلم وغيرها، وتوهم أن المراد من المسلم في النصوص والفتاوى في تلك الأبواب خصوص الشيعة الاثني عشرية من أفحش التوهمات. هذا كله لو سلم أنهم كفار، مع انه غير مسلم، لتطابق النصوص والفتاوى في الأبواب المتفرقة على اطلاق المسلم عليهم”.
كتاب الطهارة ح٣ ص ٣١٨
وبعد ان اعترف الخميني بصحة الروايات التي تكفر المخالف في الامامة حملها على الكفر المقابل للايمان، وهو الذي يكون صاحبه مسلما ظاهرا في الدنيا، وكافرا مخلدا في نار جنهم يوم القيامة، وذلك حين رد على يوسف البحراني الذي حملها على الكفر المقابل للاسلام، فقال: ” فهلا تنبه بأن الروايات التي تشبث بها لم يرد في واحدة منها ان من عرف عليا عليه السلام فهو مسلم، ومن جهله فهو كافر، بل قابل في جميعها بين المؤمن والكافر، والكافر المقابل للمسلم غير المقابل للايمان”.
كتاب الطهارة ج٣ ص ٣٢٠
وقال:”فما وردت في أنهم كفار لا يراد به الحقيقة بلا اشكال، ولا التنزيل في الأحكام الظاهرة… فلا بد من حملها اما على التنزيل في الأحكام الباطنة، كالثواب في الآخرة كما صرحت به رواية الصيرفي أو على بعض المراتب التي هي غير مربوطة بالاحكام الظاهرة”.
كتاب الطهارة ج٣ ص ٣٢٣
واستنتج الخيميني في كتاب (الاربعون حديثا): “أن الاخبار في هذا الموضوع وبهذا المضمون كثيرة، ويستفاد من مجموعها أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال عند الله سبحانه، بل هو شرط في قبول الايمان بالله وبالنبي الأكرم (ص)” ص ٥٩٢
وقال: ” ان الايمان لا يحصل الا بواسطة ولاية علي وأوصيائه من المعصومين الطاهرين عليهم السالم، بل لا يقبل الايمان بالله ورسوله من دون الولاية”. ص ٥٩٠
” ان ولاية أهل البيت ومعرفتهم شرط في قبول الأعمال، يعتبر من الأمور المسلمة، بل تكون من ضروريات مذهب أهل التشيع المقدس، وتكون الأخبار في هذا الموضوع أكبر من طاقة مثل هذه الكتب المختصرة على استيعابها وأكثر من حجم التواتر”. ص ٥٩١
وقال الخوئي: ” للكفر مراتب عديدة: منها ما يقابل الإسلام ويحكم عليه بنجاسته وهدر دمه وماله وعرضه، وعدم جواز مناكحته وتوريثه من المسلم وقد دلت الروايات الكثيرة على ان العبرة في معاملة الإسلام بالشهادتين اللتين عليهما أكثر الناس كما تأتي في محلها. ومنها: ما يقابل الايمان ويحكم بطهارته واحترام دمه وماله وعرضه كما يجوز مناكحته وتوريثه، الا ان الله سبحانه يتعامل معه معاملة الكافر في الآخرة، وقد كنا سمينا هذه الطائفة في بعض أبحاثنا بمسلم الدنيا وكافر الآخرة”.
كتاب الطهارة من التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج٢ ص ٦٣-٦٤
وأما السيد محسن الحكيم فانه بعد ان اعترف بصحة وتواتر روايات كفر المخالف في الامامة، حملها على الكفر المقابل للايمان، والذي يكون صاحبه مسلما طاهرا في الدنيا وكافرا مخلدا في النار يوم القيامة، فقال:” وأما النصوص فالذي يظهر منها أنها في مقام اثبات الكفر للمخالفين بالمعنى المقابل للايمان، كما يظهر من المقابلة فيها بين الكافر والمؤمن فراجعها”.
السيد محسن الحكيم مستمسك العروة ج١ ص ٣٩١
وبالرغم من اشتمال هذا التأويل لأحاديث الأئمة بتكفير من لا يؤمن بنظرية الامامة، على تطور إيجابي كبير في الانفتاح على (المخالفين) من أهل السنة والفرق الشيعية الأخرى غير الاثني عشرية، الا انه لا يكفي في تعزيز أواصر الاخوة الإسلامية بين الاثني عشرية وغيرهم من الفرق الإسلامية، والعمل من أجل تحقيق الوحدة الإسلامية المنشودة، والتي يرفع الشيعة الاثنا عشرية اليوم رايتها. اذ لا بد من التخلص نهائيا من ذلك التراث الطائفي السلبي، وهذا يتطلب عملية اجتهاد جذرية كبرى للتخلص من ثقافة التكفير والتفسيق والتضليل، وحصر النجاة في الفرقة الاثني عشرية، وانعكاس تلك الثقافة السلبية على كثير من الاحكام الفقهية والمواقف السياسية، مثل الصلاة خلف السنة، وجواز استغابتهم، وهجوهم، والزواج منهم، وإعطاء الزكاة لهم، والولاء السياسي لهم، أو التصويت لهم في الانتخابات، والانخراط معهم في أحزاب موحدة، وما الى ذلك.
من المواقف والفتاوى السلبية والمقززة التي نسمعها بين الفينة والأخرى حتى من بعض المراجع الوحدويين كالسيد السيستاني الذي اشتهر عنه قوله: “لا تقولوا السنة إخواننا، وانما قولوا: هم أنفسنا”.
ونعتقد بأن الاجتهاد العميق للتخلص من ذلك التراث الطائفي يتطلب:
- الاجتهاد الدقيق في علم الرجال، وعدم تقليد علماء الطائفة الاثني عشرية السابقين الذين وثقوا أصحاب الباقر والصادق والكاظم والرضا وغيرهم من الأئمة، أو توثيق من ضعفوهم كالمفضل بن عمر، مؤسس الفرقة الضالة الملعونة (المفوضة) .
- التحقيق في سند الأدعية والزيارات والأحاديث الشاذة والمجهولة التي تنطوي على الغلو والتكفير.
الالتزام بمنهج أهل البيت في عرض أحاديثهم المنقولة على القرآن والسنة النبوية، كهذا الحديث: ” لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة…فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنه نبينا محمد (ص) فإنا إذا حدثنا قلنا: قال الله (عزَّ وجل) وقال رسول الله (ص).. فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضر ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته، وإن عذبنا فبذنوبنا، والله مالنا على الله من حجة ولا معنا من الله براءة، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون”. و:” إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه”.
ومن الواضح أن احاديث التكفير التي تربط الايمان بولاية أهل البيت، والكفر بعدم الاعتراف بهم، مخالفة للقرآن والسنة النبوية، مما يسقطها كلها عن صحة نسبتها الى الامامين الباقر والصادق وبقية الأئمة.
- إعادة النظر في عقيدة (الامامة الإلهية) المنسوبة للباقر والصادق، اذ لا يجوز التصديق بكلامهما، على فرض صحة السند اليهما، بناء على ادعائهما وتفسيرهما للكفر والايمان، ورفع درجة الامامة الى درجة النبوة، أو ربطها بتوحيد الله، والتقليل من شأن شهادة (ألا إله الا الله محمد رسول الله).
- الاجتهاد في موضوع وجود (الامام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) والذي لا توجد عليه أية أدلة تاريخية، ما عدا الافتراض الفلسفي وبعض الاحاديث المفبركة الموضوعة في زمن متأخر.
علما بأن هذه الثقافة المغالية والمتطرفة والتكفيرية القائمة على نظرية (الامامة الإلهية) لم تعرف عند عامة الشيعة في القرن الأول الهجري، وفي أيام الامام علي والحسن والحسين وزين العابدين، ولم يعرفها حتى الامام زيد بن علي، عندما قام بثورته ضد الأمويين عام ١٢٢هـ
وان نظرية الامامة لم تستند على آية صريحة من القرآن أو حديث متواتر وثابت عن النبي، وانما قامت على أسطورة تكلم الحجر الأسود بلسان عربي فصيح والسلام على زين العابدين والحكم بينه وبين محمد بن الحنفية، وهي “معجزة” حدثت حسبما يقال عندما دعا ابن الحنفية ابن أخيه زين العابدين، لاتباعه في الامامة. وهي “معجزة” يقال أنها وقعت في الكعبة، ولكن لم يشاهدها أحد من الناس ولم يروها غير محمد الباقر عندما كان طفلا بعمر خمس سنين، في حين انها لم تحدث للنبي الأعظم الذي كان المشركون في مكة يطالبونه بآية حتى يسلموا على يديه ويصدقوا بنبوته.
وهكذا قامت نظرية الامامة على أساس هذه الأسطورة، وسرعان ما واجهت عقبات كأداء في غياب النص الواضح الصريح على بقية الأئمة، مما أدى الى تفرق الشيعة عقب وفاة كل امام الى عدة فرق، ووصول النظرية أخيرا الى طريق مسدود بعدم وجود ولد للامام الحسن العسكري، لكي تستمر الامامة فيه أعقابه، وعدم تحدثه عن مصير الامامة من بعده، مما أدى الى تفرق شيعته الى اربع عشرة فرقة، ووقوعهم في الحيرة.
وبالرغم من افتراض الفرقة الاثني عشرية وجود ولد في السر للعسكري، والقول بأنه الامام الثاني عشر، وانه المهدي المنتظر، الا أن عدم ظهور ذلك الولد المدعى (الغائب) كان إيذانا بانهيار نظرية الامامة، واتضاح قيامها على أسس مثالية خيالية واهية.
وفي حين كان يجدر بمنظري الامامية والاثني عشرية، أن يعودوا الى القرآن والسنة والعقل، ويؤمنوا بنظرية الشورى المقابلة لها، والقائمة على التقوى والعلم والكفاءة، كما فعلوا مؤخرا بإيمانهم بنظرية ولاية الفقيه، أو النظام الديمقراطي، فان بعض الفقهاء الشيعة لا يزالون يتشبثون بمخلفات نظرية الامامة الميتة، مثل الاعتقاد بأنهم الفرقة الناجية، وان من لا يؤمن بنظرية الامامة، يلقيها الله في النار يوم القيامة، والانطواء الطائفي على الذات، وعدم الانفتاح على بقية المسلمين أو الشيعة الزيدية، انفتاحا كاملا، واحترام عقيدتهم والتفاعل الإيجابي معهم .
ومما يؤسف له أيضا التزام الشيعة الامامية بالقراءة التاريخية السلبية لما حدث في سقيفة بني ساعدة، من اعتماد مبدأ الشورى، في اختيار أبي بكر كأول خليفة للمسلمين، واتخاذ موقف سلبي منه ومن بقية الخلفاء الراشدين والصحابة الذين لم ينتخبوا في البداية الامام علي بن ابي طالب، واتهامهم بالردة أو الكفر، وتأليف اسطورة اكراه الامام علي على بيعة أبي بكر، والهجوم على بيت الزهراء وكسر ضلعها واسقاط جنينها، وما يرافق ذلك من السب واللعن. وهو ما انعكس عبر التاريخ وينعكس دائما سلبا على الشيعة الامامية.
وبالرغم من تحريم مراجع الشيعة الوحدويين السب واللعن للخلفاء الراشدين، فان نظرية الامامة تستمر في شحن النفوس وتأليب المسلمين ضدهم، والتشكيك بصدق دعوتهم للتقريب أو الوحدة الإسلامية. ولا يمكن التخلص من رواسبها السلبية والانطلاق نحو الوحدة الإسلامية الحقيقية الا بالتحرر من نظرية الامامة التي لا وجود لها اليوم.
ولئن كان يصعب على كثير من الشيعة الامامية إعادة النظر في نظرية الامامة، فان مفتاح الخروج من هذا المأزق التاريخي، هو إعادة النظر في موضوع (الامام المهدي الغائب) فانه الخيط الذي تتعلق به نظرية الامامة، واذا سقط الايمان به سقطت نظرية الامامة برمتها، ولم يعد لها أساس تقوم عليه.
ولكن العقبة الكبرى التي تمنع الفقهاء الشيعة المعاصرين من بحث موضوع (الامام المهدي الغائب) وبالتالي إعادة النظر في (الامامة الإلهية) هو الخمس الذي يأخذونه من الشيعة ويتصرفون به باسم ذلك الامام. ولو تخلوا عن أخذ الخمس لكان باستطاعتهم الاجتهاد العميق، بحيادية وموضوعية، وإخراج الشيعة من القمقم الطائفي الذي يجدون أنفسهم محبوسون فيه.