الجذور التاريخية المنقرضة للخلاف بين حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي!

Uncategorized

الجذور التاريخية المنقرضة للخلاف بين حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي!

الحزب والمنظمة اختلفا حول الشرعية الدستورية قبل ستين عاما، ولا معنى لاختلافهما اليوم في ظل النظام الديمقراطي في العراق

اثار تصريح لأحد قيادي حزب الدعوة الإسلامية، وهو النائب والوزير السابق السيد علي الأديب، لقناة العراقية، مؤخرا، تعرض فيه لتاريخ تأسيس منظمة العمل الإسلامي، قائلا: ان مهدي هاشمي (مسؤول قسم حركات التحرر في الحرس الثوري الإيراني، في بداية الثمانينات) هو من أسس المنظمة في ايران، أثار موجة غاضبة ومستنكرة من ردود الفعل من أبناء المنظمة في العراق.

وفي محاولة منا لإطفاء هذه الفتنة بين الاخوة العاملين في الحقل الإسلامي، نود تسليط الضوء على جذور الخلاف القديم بين حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي، أو ما يعرف بالحركة المرجعية الرسالية، في ستينات القرن الماضي، والتأكيد على ضرورة تجاوز الخلافات الفكرية البائدة، وما يستتبعها من خلافات شخصية، والتي تجاوزها الزمن وتجاوزتها التطورات الفكرية السياسية التي حدثت خلال العقود الأخيرة.

ما هي أسباب الخلاف بين الحزب والمنظمة؟

شهد القرن العشرين ولادة عدة حركات إسلامية سنية وشيعية كحركة الاخوان المسلمين وحزب التحرير وحزب الدعوة الإسلامية ومنظمة العمل الإسلامي، و غيرها من الحركات والأحزاب والمنظمات التي عملت من أجل إقامة (الخلافة) أو (النظام السياسي الإسلامي). وكانت هذه الحركات قد انبثقت ردا على سقوط (الخلافة العثمانية) في ١٩٢٤ على يد أتاتورك الذي أقام نظاما علمانيا ديمقراطيا معاديا للاسلام. وكانت الأمة الإسلامية، قبل سقوط الخلافة العثمانية وقيام الحركات الإسلامية المختلفة، ولا سيما في أواخر القرن التاسع عشر، تعيش التجزئة والاستبداد وتواجه خطر الاستعمار، مما دفع بعض القادة الإصلاحيين الى الدعوة للوحدة الإسلامية والديمقراطية، التي انتجت الحركة الديمقراطية الدستورية في كل من تركيا العثمانية وايران، والتي نجحت في إقرار دستور ١٩٠٦ في ايران ودستور ١٩٠٨ في تركيا.

وعندما سقطت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وتفككت، تحت وطأة الاحتلالين البريطاني والفرنسي، انطلقت في البلاد العربية حركة القومية العربية وراحت تدعو للوحدة العربية، شعورا منها بضرورة الوحدة للنهوض في مواجهة الاستعمار. والى جانب تلك الحركة القومية العربية نشأت حركات يسارية شيوعية واشتراكية راحت تدعو للعدالة الاجتماعية، في حين كان بعض الحركات السياسية يركز على موضوع الحرية والديمقراطية والتحرر من الاستعمار.

ويمكن تلخيص الأهداف الوطنية والاجتماعية للأمة العربية والإسلامية في القرن العشرين، في الشعارات التالية: الوحدة العربية أو الإسلامية، والحرية السياسية: الديمقراطية، والتحرر من الاستعمار : الاستقلال، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية.

وقد كان بعض الأحزاب التي نشأت في القرن العشرين في البلاد العربية والإسلامية يركز على قسم من هذه الشعارات والاهداف، بينما كان بعض آخر يجمع بينها جميعا، بغض النظر عن الوفاء بتلك الشعارات والسعي لتطبيقها، أو عدم ذلك.

وتميزت حركة الاخوان المسلمين وحزب التحرير، في الدعوة لاعادة (الخلافة الإسلامية) كحل لجميع المشاكل الجزئية المتفرعة عن سقوط الدولة العثمانية، وراح منظرو التيار الإسلامي (كسيد قطب) يركزون على بناء الانسان المسلم أولا كمقدمة للعمل السياسي، ووصم المجتمع الذي لا يخضع لحكم إسلامي بالجاهلي، خصوصا مع انتشار الفكر العلماني الذي لا يؤمن بالدين، ولا يمكن أن يقبل بأي حكم إسلامي، كالحركات الشيوعية والليبرالية والقومية، والأنظمة التي تعادي الحركات الإسلامية. وأجل بعض الحركات الإسلامية كحزب التحرير مقاومة المستعمرين والاحتلال الصهيوني لفلسطين، حتى إقامة الخلافة، ولم يشارك في حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية.

وبينما كان العراق يضج بالحركات الوطنية الديمقراطية واليسارية والشيوعية والقومية في أواسط القرن العشرين، كان حزب الاخوان المسلمين (وحزب التحرير، المتفرع عنه) يمد خيوطه الى العراق في صفوف (أهل السنة) ويكتسب أيضا بعض الأفراد من الشيعة. ونتيجة لبعض الأفكار الطائفية المضادة للفكر الشيعي، قرر المنتمون الشيعة للاخوان والتحرير (كأبي عصام صاحب دخيل، ومحمد هادي السبيتي، وطالب الرفاعي وعارف البصري) الانفصال عن الحزبين وتأسيس حزب إسلامي خاص بالشيعة هو حزب الدعوة الإسلامية، ولكن مع الاحتفاظ بفكر الاخوان والتحرير، من حيث الدعوة لإقامة نظام إسلامي قائم على الشورى.

وكانت فكرة قيام حزب إسلامي ثم قيام دولة إسلامية على أساس الشورى، تطورا مهما في الفكر الإسلامي بصورة عامة ومهما جدا في الفكر الشيعي، بل يعتبر تبني نظرية الشورى ثورة في الفكر الامامي الاثني عشري التقليدي، الذي كان ينصب العداء لنظرية الشورى منذ سقيفة بني ساعدة التي التأمت بعد وفاة رسول الله (ص) مباشرة، وأدت لانتخاب أبي بكر كأول خليفة للمسلمين. وشكل تبني حزب الدعوة لنظرية الشورى في الداخل والخارج علامة بارزة ومبكرة لنهضة شيعية إسلامية كبيرة في ذلك الحين، واحياء لخط الحركة الدستورية في ايران، والتي قادها المرجع النجفي الكبير الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني، مطلع القرن العشرين.

الا أن فكرة (الحزب الإسلامي القائم على الشورى) اصطدمت بالنظام شبه السياسي المهيمن على الشيعة في أواسط القرن العشرين، وهو نظام المرجعية الدينية، الذي كان عامة الشيعة الاثني عشرية يؤمنون به ويعتقدون بأن ( الفقهاء المراجع) هم القيادة الشرعية وأنهم (نواب الامام المهدي العامون) مما أدى الى انشقاق الحركة الإسلامية الشيعية العراقية الناهضة في الستينات بين من يؤمن بفكرة (الحزب الإسلامي القائد) وبين من يؤمن بالقيادة المرجعية (كالحركة المرجعية الرسالية = منظمة العمل الإسلامي) بقيادة المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي وأخيه السيد حسن الذي كتب عام ١٩٦٣ كتاب (كلمة الإسلام) في الرد على نظرية الحزب ، والدعوة للقيادة المرجعية وولاية الفقيه. وقد أدى ذلك الجدل أيضا الى انسحاب بعض القادة المؤسسين لحزب الدعوة كالسيد محمد باقر الصدر والأخوين مهدي وباقر الحكيم، من حزب الدعوة، بأمر والدهما المرجع الشيعي الأعلى السيد محسن الحكيم.

وذهب بعض علماء الشيعة كالشيخ عبد الله السبيتي والد القيادي محمد هادي السبيتي ، الى اتهام حزب الدعوة بأنه ” حركة سنية ، وأن قادتها تسننوا وخرجوا عن التشيع ، وإن تصوروا أنهم شيعة”. كما يقول الشيخ علي الكوراني العاملي.

وهكذا انقسم مؤسسو وقادة حزب الدعوة منذ أيامه الأولى بين من يؤمن بنظرية (الحزب) وحقه في قيادة الأمة، واحتكار ذلك الحق، وبين من يؤمن بالمرجعية كالسيد محمد باقر الصدر الذي انفصل عن الحزب بعد تأسيسه، ودخل في جدال طويل مع قيادة الحزب، وسار على دربه كل من تلميذه السيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي، اللذين كانا يصران على ضرورة تبعية الحزب للمرجعية، وقد انفجر الخلاف بينهما وبين قيادة الحزب ، في ايران ، في الثمانينات، والتسعينات، حيث أصر الحائري على أن يكون قائدا فعليا للحزب باعتباره فقيها، وليس مستشارا فقهيا فقط، كما كان يصر بقية أعضاء الحزب، فاستقال وطلب منهم أن يقدموا طلبا للامام الخميني بتعيين وكيل مشرف عليهم، ولكنهم رفضوا مقترحه هذا، وحدثت ما عرف يومها بأزمة (قرار الحذف) ثم اختارت القيادة الشيخ الآصفي باعتباره (ناطقا رسميا عن الحزب) وليس زعيما أو قائدا له، الى أن نشر الآصفي عام ١٩٩٧ كتابا تحت عنوان: (علاقة الحركة الإسلامية بولي الأمر) وطالب الحزب فيه بأن يكون تابعا للولي الفقيه الامام الخامنئي، مما دعاهم لرفض ذلك الطلب، ودعوته للتنحي عن الناطقية والاستقالة من الحزب.

حزب الدعوة واستراتيجية العمل المرحلي

وفي الوقت الذي كان حزب الدعوة يأخذ على المرجعية الشيعية في الستينات انعزالها عن العمل السياسي وتقوقعها داخل الحوزة والأبحاث الفقهية، وعدم قيامها بالعمل من أجل إقامة الحكم الإسلامي، فانه وضع استراتيجية طويلة الأمد لبناء الانسان المسلم الداعية أولا، والتزم بالمرحلة الثقافية قبل الانخراط بالمرحلة السياسية، دون أن يحدد أمدا معينا للمرحلة الثقافية، واجتنب لذلك الخوض في أي نشاط سياسي ولو مطلبي كالدعوة للديمقراطية أو العدالة الاجتماعية او الوحدة العربية أو مقاومة المحتلين، وذلك كما ينقل الكوراني عن مؤسس الحزب عبد الصاحب دخيل، الذي “جعل المرحلة التغييرية أطول مرحلة في الدعوة، وسعى لكي ينشئ أمة قيادية داخل الأمة ، حتى يأتي اليوم الذي يتم الإعلان فيه عن وجودها، وإسقاط الحكم الفاسد ، وإقامة حكم الإسلام” !

وذلك بسبب الظروف الموضوعية، وطبيعة متطلبات مشروع انشاء أمة داخل الأمة! بحيث كان الحزب يرفض المشاركة في أي حركة مطلبية تقوم بها المرجعية ، بحجة الخطة المرحلية !

ويقول الكوراني: ان السيد مهدي الحكيم طلب من الدعوة أن تشارك في تحرك مطلبي في أيام عبد الرحمن عارف ولكن أبا عصام عبد الصاحب دخيل رفض ذلك ، ثم كرر الطلب في أوائل مجئ البعثيين ، وجرت مباحثات بين قيادة الدعوة وبين الحكيم في ذلك ، وكانت النتيجة سلبية، حيث أبلغه أبو عصام: “أننا لن نشترك في أي تحرك مطلبي ، وأنا نعمل بمرحلية ، وموقفنا من أي حاكم أو وزير أو نظام هو موقفنا من النظام غير الإسلامي ككل” .

و رفضت قيادة الدعوة أن تقف علناً الى جانب السيد الحكيم عندما هاجمته السلطة البعثية واتهمت ابنه بمحاولة انقلاب فاعتصم في منزله .حيث امتنعت قيادة الدعوة حتى عن تنظيم مجالس دعاء الفرج ، بحجة أن ذلك يتنافى مع خطة المرحلية التي تتبناها ! وكان المبرر لكل ذلك: “العمل من أجل هدف تغيير العالم ، وإقامة دولة الإسلام المثالية . وأنه لايجوز أن نرضى بأقل منها” !

وفي الحقيقة ان الهدف الكبير الذي وضعه حزب الدعوة لنفسه، وهو هدف إقامة الحكم الإسلامي، على غرار هدف الاخوان المسلمين وحزب التحرير في إقامة الخلافة الإسلامية وتأسيس النظام السياسي، كان هدفا كبيرا بعيد المنال، منعه من التقدم تدريجيا والعمل من أجل تحقيق الأهداف الأصغر كالحرية والعدالة والوحدة، واصبح حزب الدعوة كما يقول المثل الإيراني: (رفع حجر كبير دليل على عدم إرادة الضرب) فلا هو بنى تلك الأمة المؤمنة بالحكم الإسلامي، ولا هو أقام تلك الدولة المنشودة، ولا حقق أي جزء من الأهداف الاجتماعية كالعدل والحرية والاستقلال.

واضافة الى التزام حزب الدعوة بالسياسة المرحلية، أي عدم الانخراط بأي عمل سياسي أو مطلبي شعبي، في المرحلة الثقافية التغييرية الممتدة بدون أجل منظور، فانه أعطى لنفسه موقع (القيادة) للساحة الإسلامية، والتعالي على المرجعية والحركات الإسلامية الأخرى كمنظمة العمل الإسلامي، أو الحركة المرجعية، والنظر اليها من فوق، كما يقول القيادي السابق في الحزب الشيخ علي الكوراني: ان أبا عصام كتب بيانا رسميا قال فيه” إن الإفتاء والتقليد أمرٌ شخصـي يرجع الى المكلف ، فهو الذي يشخص من يقلد . أما قيادة الأمة فهي للدعوة التي تتصدى وتقود الأمة ، لأن القيادة فعل قيادة وليست منصب قيادة “.

وذهب الكوراني في نقده الذاتي للحزب، الى اتهام قائد الحزب أبي عصام عبد الصاحب دخيل، بالتأثر بالحزب الشيوعي في تبنيه لنظرية التنظيم.

عن موقع علي الكوراني العاملي، تحت عنوان: حزب الدعوة نسخة من الإخوان المسلمين، نشر في شبكة هجر الثقافية- جمادى الأولى- 1435

https://www.alameli.net/%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84…/

ولم تكن (الحركة المرجعية) الشيرازية، المؤمنة بقيادة المراجع، والمتأثرة أيضا بفكر الاخوان المسلمين، والمؤمنة والداعية لاقامة حكم إسلامي، لم تكن بأفضل حالا من اخيها حزب الدعوة، حيث اقتصرت شعاراتها في الستينات والسبعينات على العمل الفكري والثقافي، ولم تطرح برنامجا سياسيا يلبي متطلبات المرحلة. وان كان زعيم الحركة المرجعية السيد محمد الشيرازي، قد تفاعل كثيرا مع حركة الامام الخميني في ايران في عام ١٩٦٣ واستقبله ورحب به عندما جاء منفيا الى العراق عام ١٩٦٥ وربما كان يعود ذلك الى ضعف الحركة المرجعية وصغرها بالنسبة لحزب الدعوة. وحسب معلوماتي فان منظمة العمل الإسلامي بدأت تستعد للعمل العسكري منذ أواسط السبعينات، حيث راحت تجمع السلاح وتدرب شبابها عليه، ولم تكن تعرف المرحلية التي كان يؤمن بها حزب الدعوة.

في هذه الأثناء كان هناك نموذج شيعي آخر ينهض في لبنان بقيادة السيد موسى الصدر، الذي أسس حركة المحرومين، في السبعينات، واخذ يطالب بالعدالة الاجتماعية للفقراء الذين كان يغلب عليهم الانتماء للمذهب الشيعي، ويدعو لمقاومة إسرائيل وحماية الجنوب اللبناني من اعتداءات الصهاينة، ولا سيما بعد انتقال المقاومة الفلسطينية الى لبنان في السبعينات.

وقد استقطب النموذج اللبناني (الصدري) الشيعة في منطقة الشرق الأوسط، وأعجب به كثير من أبناء حزب الدعوة و الحركة المرجعية، وتعاونوا معه، أو انخرطوا في صفوف حركته.

وما أن اختطف السيد موسى الصدر في ليبيا عام ١٩٧٨ حتى تفجرت حركة شيعية أخرى في ايران، بقيادة الامام الخميني، الذين نجح في قيادة الجماهير الإيرانية وتلقينها شعار: (الحرية، الاستقلال، الجمهورية الإسلامية) واستطاع في عام ١٩٧٩ إقامة الجمهورية الإسلامية، بقيادة الولي الفقيه.

وهنا وجدت (الحركة المرجعية) الشيرازية، في هذه التجربة تجسيدا لأطروحتها (المرجعية) كما وجد حزب الدعوة فيها تجسيدا لطموحه بإقامة (حكومة إسلامية). وأجبر انتصار الثورة الإسلامية الايرانية المفاجئ قيادة حزب الدعوة على طي صفحة المرحلة الثقافية، وإعلان الدخول في المرحلة السياسية، وتبني العمل السياسي والعسكري من أجل اسقاط نظام صدام حسين في العراق. كما دفع قيادة الدعوة في لبنان للانخراط في (حزب الله) ومقاومة إسرائيل.

وكان قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد أحدث ، في الواقع، ثورة في الفكر السياسي الشيعي، حيث تبنت الفكر الدستوري الديمقراطي والاستناد الى رأي الشعب، وتجاوزت نظرية (ولاية الفقيه) أو (نيابة الفقيه العامة عن الامام المهدي) التي كان يؤمن بها الشيعة خلال القرون الماضية. ولم تشر الى موضوع (النيابة العامة للفقهاء) في الدستور.

فقد كان الفكر الشيعي الامامي الاثنا عشري، يؤمن بنظرية الامامة الإلهية التي تشترط العصمة والنص من الله في الامام، ويؤمن بوجود الامام المعصوم المعين من قبل الله، وهو الامام الثاني عشر الغائب محمد بن الحسن العسكري، الذي يعتقد الشيعة بولادته في منتصف القرن الثالث الهجري وبقائه حيا الى اليوم، وكانوا ينتظرون خروجه خلال الألف عام الماضية، ويحرمون إقامة الدولة في ظل غيبته، لعدم توفر شرط العصمة والنص في أي حاكم غيره، ولكنهم أنتجوا خلال القرون الماضية نظرية بديلة هي نظرية (المرجعية الدينية) التي تطورت تدريجيا حتى أصبحت نظرية (ولاية الفقيه).

وبالرغم من إقامة النظام الجمهوري الديمقراطي الإسلامي في ايران ، ولاحقا في العراق، الا ان الحركة المرجعية (كمنظمة العمل الإسلامي وحزب الفضيلة بقيادة الشيخ اليعقوبي) وكثير من الشيعة الآخرين “المقلدين” ظلوا يعتقدون بامتلاك (الفقهاء المراجع) للشرعية السياسية الدينية، وحصرها فيهم، ولا يمارسون الانتخابات الديمقراطية الا بتكليف “شرعي” من المراجع.

ولا يزال هذا الجدل مستمرا في داخل المجتمع الشيعي بصورة عامة، حتى في ظل النظام الديمقراطي العراقي الجديد، حيث لم يحسم بعد دور المرجعية الدينية في النظام العراقي، هل هي فوق النظام؟ أم تابعة له؟ أو بعيدة عنه؟

وبالرغم من اعتراف حزب الدعوة ، عموما، بدور المرجعية وخضوعه لإرادتها واحتكامه اليها أحيانا، وايمانه بالنظام الديمقراطي في العراق، فان بعض افراده من حاملي الفكر الحزبي القديم، ظل يحلم بقيادة الساحة العراقية والشيعية، واحتكار السلطة لنفسه، ويحاول اقصاء الأحزاب والحركات الإسلامية الأخرى المنافسة له، أو عدم الاعتراف بوجودها أصلا، كما فعل السيد علي الأديب في لقائه الأخير مع قناة العراقية. وربما كان ذلك سبب توتر علاقة حزب الدعوة الطويل بالتيار الصدري بقيادة السيد مقتدى الصدر، الذي استطاع اكتساح الساحة وقيادة قطاع كبير من الشيعة.

وفي الحقيقة ان المشكلة لا تخص حزب الدعوة، وانما تهم التجربة السياسية الشيعية العامة، سواء في العراق أو ايران، حيث لا زالت التجربتان الإيرانية والعراقية تعانيان من فشل كبير في تحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية، وتلبية مطالب الشعب، وذلك بسبب هيمنة المرجعية الدينية التي تدعي امتلاك الحق الالهي في الولاية على الناس باعتبارها تمثل (النيابة العامة عن الامام المهدي الغائب)، ولا تحتاج الى أخذ الشرعية الدستورية من الناس، الا بصورة شكلية وظاهرية . والمركزية الشديدة التي تتبعها بعض الأحزاب والأجهزة في العراق وايران (ولاية الفقيه).

ولا يمكن الخروج من هذا المنحى الاستبدادي، الا بإعادة النظر في الفكر الامامي الاثني عشري القديم، الذي استحال تطبيقه في الماضي ويستحيل تطبيقه اليوم، ولا سيما إعادة النظر في موضوع ولادة ووجود الامام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) الذي لم يكن يوجد عليه أي دليل تاريخي معقول.

وبعد تحقيق هذه الخطوة، والتخلي عن الفكر الامامي، والتخلص من مخلفات ذلك الفكر أي المرجعية الدينية، يستطيع الشيعة التقدم خطوة واسعة نحو النظام الديمقراطي، وترسيخ أركانه.

تبقى مسألة (الدولة الإسلامي) وهي مسالة لا توجد عليها نصوص شرعية تؤكد ضرورة اقامتها، لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، وانما توجد في القرآن آيات عديدة تنص على إقامة الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة الظالمين. مثل: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” و “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ”.

وهو ما يرسم استراتيجية واقعية تختلف كثيرا عن استراتيجية حزب الدعوة والاخوان المسلمين وحزب التحرير، التي كانت ترى ضرورة بناء الانسان المسلم وإقامة الحكم الإسلامي أولا، قبل الدخول في تنفيذ المراحل الجزئية كالمطالبة بالعدل والحرية والاستقلال.

ان العمل من اجل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضروري قبل إقامة (الدولة الإسلامية) كما هو ضروري بعدها، وذلك لأن الإعلان عن إقامة حكم إسلامي في أي مكان، لا يعني بالضرورة تطبيق الحق والعدل وشرع الله، اذ تبقى الصراعات السياسية والاجتماعية الدنيوية قائمة ومستمرة، ومضادة لتعاليم الله، تماما كما حدث في تجربة الصحابة بعد وفاة رسول الله (ص) عندما تسرب النفاق الى كثير منهم، ودفعهم للاقتتال فيما بينهم في الفتنة الكبرى، والتي استمرت الى اليوم. مما يدل على ان حلم (الدولة الإسلامية) لو أعلن عن تحقيقه في الخارج فانه يظل اطارا وشعارا هلاميا بحاجة الى تنفيذه على الأرض في سلوكيات وبرامج ومواقف متواصلة، تركز على تحقيق العدل والحرية في كل يوم.

ان انصار حزب الدعوة الإسلامية وانصار منظمة العمل الإسلامي أو الحركة المرجعية، وبالأحرى عموم الشيعة والسنة بحاجة ماسة اليوم للتخلص من الفكر السياسي القديم الطائفي والحزبي والمرجعي، والالتزام بالفكر الديمقراطي، والوحدة الإسلامية، وتعزيز الدستور، والعمل في ظل النظام الديمقراطي على تحقيق العدل لجميع المواطنين.

“واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *