ما هو التشيع الذي يريد الكوراني ان يعيد حزب الدعوة اليه ، بعد أن يخرجه من الاخوان المسلمين؟
اتهم الشيخ علي الكوراني العاملي حزب الدعوة “بأنه نسخة من الإخوان المسلمين، وبأنه قد اصبح سنيا”. وطالبه بأن يعود الى التشيع، فهل كانت اتهاماته صحيحة وفي محلها؟ أم أنه تراجع الى الوراء.
وكما نعرف فان الشيخ الكوراني كان من الجيل الثاني في حزب الدعوة واصبح قياديا فيه في أواخر الستينات، في الوقت الذي كان يخوض الحزب معركة مع التيار الشيعي المرجعي التقليدي والحركي الرافض لنظرية الحزب، والذي كان يعتبر المرجعية الدينية هي القيادة الشرعية في ما يسمى بعصر الغيبة للامام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري (المهدي المنتظر) الذي كان يعتقد الشيعة ان الفقهاء المراجع هم نوابه العامون، وأنهم لذلك الحكام الشرعيون وولاة أمر المسلمين، وبالتالي فان المرجعية التقليدية النجفية رأت في ادعاء حزب الدعوة الحق بالقيادة، أو احتكار القيادة، تجاوزا على حقها وصلاحيتها في قيادة الشيعة. ولم يقتصر الأمر على المرجعية القليدية (التي كانت تتهم بالانعزال والجمود، وانما امتدت معارضة الحزب الى التيار المرجعي الحركي المتمثل في حركة السيد محمد الشيرازي (الرسالية) التي كتب أحد أعمدتها (السيد حسن الشيرازي) كتاب (كلمة الإسلام) في نقض شرعية القيادة الحزبية، التي اعتبرها غربية وسنية، في مقابل القيادة المرجعية (النائبة عن الامام المهدي).
وقد رفضت المرجعية النجفية غير الحركية نظرية حزب الدعوة في الشورى، لسببين، أولهما : تناقض نظرية الشورى مع نظرية الامامة الإلهية الشيعية، وثانيهما: تناقض العمل من أجل إقامة حكومة إسلامية في (عصر الغيبة) مع نظرية انتظار الامام المهدي الغائب، المكلف الوحيد بإقامة الحكومة الإسلامية الإلهية، وعدم توفر الظروف أو عدم جواز إقامة اية حكومة إسلامية بعيدا عن شرط العصمة والنص على الامام من الله.
ولم تكن نظرية (ولاية الفقيه) التي طرحها الشيخ أحمد النراقي في بداية القرن التاسع، قد تبناها الامام الخميني بعد، والتي لم تكن تحظى بتأييد بقية مراجع الشيعة كالحكيم والخوئي والصدر. وبالتالي فان قيام حزب الدعوة بالعمل من أجل إقامة حكومة إسلامية على أساس الشورى، في (عصر الغيبة) اعتبر بحق خروجا على نظرية الامامة وانتظار المهدي والقيادة المرجعية، وهو وان لم يطرح نظرية (الخلافة) السنية التي كان يتبناها حزب التحرير وحركة الاخوان المسلمون، التنظيمين السنيين اللذين انبثق منهما حزب الدعوة، رغم انفصل قادة الحزب عن ذينك التنظيمين، الا انه ظل حاملا لفكرهما الأساسي وهو إقامة حكم إسلامي، بنكهة شيعية، بصورة أو بأخرى.
وقد شكلت ولادة حزب الدعوة نوعا ما ثورة في الفكر السياسي الشيعي الذي كان يعيش في أواسط القرن العشرين حالة من الجمود والسلبية والانعزال والانتظار. وبالرغم من رفض التيار المرجعي لنظرية الحزب الا ان كثيرا من أبنائه كالحركة الشيرازية (الرسالية = منظمة العمل الإسلامي) اتفقت مع حزب الدعوة على ضرورة تنظيم الطاقات الشيعية والعمل من أجل إقامة حكم إسلامي.
واذا كان حزب الدعوة قد أخطأ خطأ ما ، فانه يمكن القول ان خطأه كان يتمثل في الخطة المرحلية، وتأجيل او رفض القيام بأية نشاطات سياسية او اجتماعية، كالدفاع عن حقوق الفقراء، أو الدعوة للحرية وإقامة نظام ديمقراطي، وما شابه، من أجل التفرغ لبناء الأمة التي تستطيع إقامة الحكم الإسلامي في المستقبل البعيد.
وهو ما تحدث عنه الشيخ علي الكوراني في مقاله الناقد لحزب الدعوة تحت عنوان: (حزب الدعوة نسخة من الاخوان المسلمين). والمنشور في موقعه الرسمي.
وبعيدا عن هذه الملاحظة، ماذا كان ينتظر من شباب مسلم متحمس للاسلام يشاهد الأحزاب الشيوعية واليسارية والقومية والليبرالية تنشط في العرق والعالم العربي والإسلامي، للسيطرة على البلاد، ويرى المرجعية الدينية منعزلة وتتشبث بنظرية الانتظار للامام المهدي الغائب؟ ألم يكن من حقه العمل من أجل إقامة حكم إسلامي، اسوة بحركة الاخوان المسلمين أو حزب التحرير؟ وما الضير في ذلك؟ ومن كان يستطيع أن يوقف تأثير الاخوان المسلمين وكتاباتهم الإسلامية على عموم الشيعة في العراق وحتى ايران؟ ألم يترجم السيد الخامنئي وغيره كتابات سيد قطب وأبو الأعلى المودودي؟
صحيح ان صورة الحكم الإسلامي لم تكن واضحة لدى الكثير من المفكرين السنة والشيعة، وحتى لدى الامام الخميني الذي طرح نظرية ولاية الفقيه في أواخر الستينات، في حوزة النجف، ولولا الثورة الإسلامية الإيرانية وقيام الجمهورية الإسلامية، لربما لم يكن الشيخ الكوراني يفكر بنقد حزب الدعوة على ميوله السنية والاخوانية.
وفي الحقيقة ان نظرية ولاية الفقيه، أو الجمهورية الإسلامية، كانت تقرب الى الفكر السني القديم والحديث، فهي قامت على أساس الشورى والانتخاب من قبل الشعب، ولم تشترط العصمة ولا النص ولا السلالة العلوية في الامام، وبكلمة أخرى كانت ثورة في الفكر الشيعي على نظرية الامامة الإلهية وانتظار الامام الغائب، التي كانت تكبل الشيعة وتمنعهم من القيام بأية ثورة أو نشاط سياسي او إقامة حكومة في (عصر الغيبة) بالرغم من مظاهرها الشيعية وعناوينها وطقوسها.
وقد أيدها الشيخ علي الكوراني وانخرط فيها، كأمر واقع، ولو انه أحيانا يتشبث بنظرية الانتظار، واذا كان الكوراني ينتقد حزب الدعوة على تأثره بالاخوان المسلمين وبالفكر السني فان من الأجدر به أن ينتقد نظرية ولاية الفقيه، أو الجمهورية الإسلامية. الا انه ربما يعتبر (الولي الفقيه) نائبا عاما عن الامام المهدي وقائدا “شيعيا اماميا” وهو غير صحيح بالمرة، فان نظرية ولاية الفقيه ثورة على الفكر الامامي، وتتخلى عن أهم شروطه، بحيث يصح القول انها تجربة سنية ديمقراطية. وذلك لأن المهم ليس الأسماء والعناوين والشعارات، وانما المهم النظر الى جوهر الفكر السياسي الذي يميل الى الشورى وحق الأمة في انتخاب الامام (غير المعصوم ولا المعين من قبل الله) وهو تماما ما كان يقول به منظرو الفكر السياسي السني الأول.
ومن هنا فان انتقاد الكوراني لحزب الدعوة ودعوته للحزب للتخلي عن فكر الاخوان والعودة الى “التشيع” دعوة فارغة وفي غير محلها، الا اذا كان يدعو الحزب للجمود على نظرية الانتظار للامام المهدي الذي ينظر له الكوراني كثيرا، ولكنه لم يدرسه بدقة، ولم يدرس حتى نظرية الامامة الإلهية، لكي يعرف انها بعيدة عن أئمة أهل البيت، ومن صنع المتكلمين والغلاة والخرافيين الذين اختلقوا فرضية وجود الامام الثاني عشر الغائب (محمد بن الحسن العسكري) بعد وصول نظرية الامامة الى طريق مسدود، بوفاة العسكري دون عقب، ودون وجود أي دليل ولادة ابن له في السر أو العلن.
ان الاجدر بالشيخ الكوراني القيام بإعادة دراسة نظرية الامامة الإلهية وفرضية وجود الامام الغائب، وعدم اعتبارهما نظريتين شيعيتين موحى بهما من الله.
وقد وجهت للشيخ الكوراني قبل حوالي ثلاثين عاما دعوة لدراسة فرضية الامام الغائب، وما يستتبعها من الايمان بنظرية الامامة الاثني عشرية، ونظرية نيابة الفقهاء العامة عن ذلك الامام المفترض، وارسلت له كتابي (تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى الى ولاية الفقيه، الامام المهدي حقيقة تاريخية؟ أم فرضية فلسفية) قبل الطبع ودعوته لمناقشته، فلم يفعل حتى الآن، وحدث أن جاء الى حوار مفتوح على قناة المستقلة، عام ٢٠٠٢ حول موضوع الامام المهدي، فلم يقدم أي دليل تاريخي على ولادته ووجوده.
لقد قلت في كتابي الآنف ان نظرية الشورى هي نظرية أهل البيت، وانهم لم يكونوا يعرفون نظرية النص الإلهي، بل كانوا ينكرونها، وانه لا وجود لأي دليل تاريخي على ولادة ابن للامام العسكري، وانه الامام الثاني عشر، أو المهدي المنتظر، وان الإسلام يم تحدث ابدا عن نظام الحكم وكيفية انتخاب الحاكم، وعلاقته بالأمة، وبالتالي فان نظرية الخلافة السنية ونظرية الامامة الشيعية هما نظريتان بشريتان وليستا “اسلاميتين” وان على الشيعة وعامة المسلمين، إقامة نظام الشورى واختيار الحاكم على أساس العدل والمساواة والكفاءة.
ويبدو ان الشيخ الكوراني قد تبنى مؤخرا النظرية المرجعية التقليدية باعتبارها نائبة عن الامام المهدي، وانها القيادة الشرعية الوحيدة التي يمكن اتباعها والدعوة اليها اليوم، بالرغم من حدوث تطور كبير في نظرية ولاية الفقيه المطبقة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقيامها على أساس الدستور ورأي الشعب، وليس على أساس فرضية النيابة العامة للفقهاء القائمة على أساس فرضية الامام الغائب الوهمية.
فهو يقول:” أعتقد أن ذمة المكلف لا تبرأ في العمل الإسلامي إلا بفتوى المرجع ، فأنا أؤمن بالعمل في خط المرجعية ، ولا أرى مشـروعية العمل في تنظيم يطرح نفسه في مقابل المرجعية أو بدلها . وان علاقة الدعوة بالمرجعية ، واعتقادها بأن قيادة الأمة لقائد الدعوة ، لأنه المتصدي للقيادة ، وليس للمرجع القاعد بتعبيرهم” وهذا كلام قد تجاوزهم الزمن و تجاوزه التطور الديمقراطي الحاصل في العراق وايران .
واذا كان الشيخ الكوراني يود توجيه نقد لحزب الدعوة او أي حزب إسلامي آخر، فلا بد ان يوجهه لعموم المسلمين أو الإسلاميين بالتخلي عن احتكار السلطة، واحترام الناس، وخدمتهم وتبادل السلطة بشكل سلمي ضمن النظام الديمقراطي، الأقرب لروح الإسلام.